ينسب لماركس مقولة مشهورة عنه بعد أن سمع أحدهم يعرف الماركسية بطريقة خاطئة فقال ماركس: "إذا كانت هذه هي الماركسية؛ فمن المؤكد أنني أنا ماركس، لست ماركسياً"!!
ينطبق ذلك بشكل كبير على جماعة أنصار الله([1]) أو الحوثية([2]) التي أحيطت منذ خروجها للمجال التداولي الإعلامي والبحثي بغير قليل من الضبابية والغموض، ومع تدشين أول جولة صيف 2004م كان السؤال الحرج: من هم أنصار الله؟ كيف نشأت الجماعة؟ ما هي أهدافهم، مقولاتهم، أجندتهم، استراتيجياتهم، أصولهم المعرفية وخصائصهم الفكرية...؟
في هذه المرحلة الحرجة في مسار تاريخ جماعة أنصار الله، وفي مناخ مضطرب تخلّقت الفكرة الأولية، وكان التصور الأولي أو الأفكار الأولية تتدحرج مع الأيام ككرة الثلج، والمعلومات المتكونة في تلك المرحلة مثلت دور الخبرات السابقة التي تسهم في تضليل نتائج البحث العلمي وتؤثر سلباً على مخرجات القراءات التالية، وأكثر مقولات استنزفت جهود الباحثين والكتبة؛ هي مقولة الإمامة السياسية، الصحابة، العلاقة مع إيران والمذهب الجعفري، وهي مقولات هامشية في الخطاب الحوثي أو مفتعلة، كما سيأتي، ويتم اصطفاؤها وتسليط الضوء عليها عن قصد في الغالب، كجزء من أدوات المكافحة.
باستقراء عدد كافٍ من المواد والتقارير والدراسات التي تناولت أنصار الله؛ نجد أنفسنا أمام كمّ كبير من التعريفات المتضاربة ومن بين التعريفات النمطية الشائعة:
- جماعة إحيائية زيدية مطلبية تتبنى مطالب حقوقية سياسية وثقافية واجتماعية، وتسعى لحماية التقاليد الدينية والثقافية للزيدية؛ ممّا يعتقد أعضاؤها أنه تعديات سلفية/وهابية.
- ظاهرة صنعها البؤس وحالة الحرمان الاقتصادي والمظالم المرتبطة بالهوية الثقافية، وإقصاء الرأسمال الثقافي والاجتماعي الزيدي من المساهمة في رسم وتشكيل مستقبل اليمن الجمهوري عقبت ثورة سبتمبر 1962م.
- تجمع عقائدي مغلق يعبر عن وعي فئوي، وتمثل مصالح طائفية طبقية أو طائفية.
- حركة تمرد وميليشيا مسلحة تتربص شراً بالثورة والجمهورية، وردة سياسية ضداً لعملية التحول الذي أحدثته ثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962م، لاستئناف وإحياء الإمامة السياسية وسلطة الهاشميين في اليمن.
- مجموعة من الشيعة المرتبطين بإيران، والذين تحولوا عن الزيدية إلى الاثني عشرية([3]).
أنصار الله ليست نزعة علموية، ولا مجرد مدرسة نظرية صرفة، بل مكوّن اجتماعي وحراك شعبي وتيار سياسي نشأ في سياق انقسامي، وبيئة مفعمة بالصراعات والتناقضات الرأسية والأفقية مع النظام والفاعلين المحليين، كتجلٍ للفشل في إقامة دولة وطنية تصهر الهويات التحتية في إطار وطني جامع، خاضت جولات من القتال سواء مع النظام أو أطراف محلية غالباً ما كانت تكتسب أبعاداً إقليمية ودولية، ومعظم النتاج الأدبي في مقاربة أنصار الله أنتج على هامش أو في سياق هذه الصراعات، ومن قبل قراء هم بشكل أو بآخر جزء من الصراع، لذا كان نتاجهم تعبيراً عن مخاوفهم أو انطباعات ذاتية مستوحاة من الذاكرة التاريخية لصراعات النصف الأول من القرن السابق أو بتأثير حالة التقاطب الجيوسياسي في المنطقة.
وغير العوامل الدعائية والكيدية سياق نشأة أنصار الله - أيضاً - ارتبط بجملة من العوامل الموضوعية إن على مستوى الرموز والطقوس والشعائر والخلفية الثقافية أو السياق المكاني والزماني ربطها في الوعي الجمعي بمذهب وجغرافيا وفئة معنية.
من جهة ثالثة تباينت القراءات والتعريفات لأنصار الله بتباين المناهج، والفرضيات السوسيولوجية النظرية لمقاربة الظواهر الاجتماعية والتعبيرات الدينية، وأكثر المناهج استخداما هي المناهج ذات الطابع الاستاتيكي أوالسكوني الجامد التي تقاربها كائناً فوق تاريخي وفعلاً استئنافياً لظواهر مذهبية مفترضة في الأزمنة الغابرة وتلحيقها بها بصورة مصطنعة، وتغريسها قهراً في القرن الحادي والعشرين من دون أي مناسبة.
أو تفترض أن مسار حركة المجتمع اليمني مسار جامد وثابت يعيد تكرار أبنيته بطريقة ميكانيكية، أو أنه يمكن أن ينحكم لرغبة فردية ومؤامرة مخططة متفلتاً من كل القوانين والشروط التي تحكم حركة الاجتماع الإنساني.
النوع الآخر من المناهج (منهج الأزمة) المنهج الذي كان سائداً على التراث السوسيولوجي التقليدي في تفسير عوامل وأسباب نشأة الإحيائيات الإسلامية، وربط كل أشكال التعبيرات الدينية بأزمنة التراجع والتقهقر وخيبة الأمل.
المقاربات اليسارية والليبرالية التقليدية على الخلاف بينها لا تخرج عن كونها تنويعاً على منطق الأزمة تستبطن فكرة مسبقة، ترى أن العلمنة وأفول المقدس هو التطور الطبيعي.([4])
إلا أن التطورات والتحولات التاريخية جاءت مناقضة لأطروحات أفول المقدس، وانحسار الدين، والطفرة الدينية التي شهدها العالم والمنطقة العربية والإسلامية نهاية القرن العشرين أوقعت نماذجها الإرشادية (البراديغم) في أزمة كشفت قصورها عن مواكبة دينامية الظاهرة الإسلامية، وتفسير تزايد الطلب الاجتماعي عليها، وظهرت اتجاهات حديثة أعادت مراجعة فرضيات التراث السوسيولوجي التقليدي، وأدواته ومفاهيمه التحليلية.
لا يعني ذلك أن كل أشكال التعبيرات الدينية المعاصرة كائنات مفارقة، وظواهر مستقلة عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياقات البنيوية، والفرضية المنهجية التي أصبحت أكثر انتشاراً أنَّ التعبيرات الدينية المعاصرة لا يمكن معالجتها إلا على أرضية الفكر الإسلامي نفسه في سياق تفاعله مع الواقع الذي يتحرك فيه ..، وأن أصل المسألة كامن في بنية العقل العربي والإسلامي في تعالقاته مع البنى الاجتماعية والاقتصادية.([5])
الظاهرة الإسلامية ترجع بالأساس لـ (كامن ثقافي) يدفع بها إلى حيز الوجود([6])، وتسهم السياقات الاجتماعية والسياسية في مددها أو انحسارها والمسارات التي تسلكها كما تتدخل في تحديد نوع الأنشطة والممارسات، فالدوافع الفكرية الثابتة المنبثقة عن النظام العقدي الإسلامي الذي يشكل المدخلات أو الإطار المفاهيمي تعرض على الزمن تحت تأثير العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية للمحيطين الداخلي، مخرجات متفاوتة على شكل تحركات إسلامية مختلفة([7]).
جماعة أنصار الله ككل التعبيرات الدينية المعاصرة يثير الاقتراب منها تداخلات أكثر من حيز معرفي، بعضها يتعلق بالحيز الديني وبعضها يتعلق بالإطار الثقافي كما بالسياق السياسي والشروط الاجتماعية والاقتصادية، والاشتغال عليها لا يكون إلا باعتماد مقاربة تركيبية (ثقافية - اجتماعية) تدمج بين الدلالات الثقافية لوجودها، ولا تهمل السياقات السياسية والشروط الاجتماعية، ولا دور القيم والعقائد والقيادة الملهمة التي مثلها السيد حسين الحوثي، ومن بعده شقيقه عبد الملك الحوثي في إلهام وتوجيه سلوك مناصريهم، وفي صوغ هوية الخطاب لأنصار الله في تعالقها مع ظروف وشروط السياق التاريخي المحلي والخارجي لإعادة تشكيل الاجتماع السياسي للجماعة.
تبلور المشروع الحوثي على إيقاع الحالة الزيدية البائسة، والسجال البيني العقيم الذي كان من بين عوامل تعثر أبرز مشاريع الإحيائية الزيدية الدينية، والسياسية في العشرية التاسعة من القرن المنصرم، وثانياً: على حال الأمة العربية ككل، خصوصاً في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، والأسئلة التي أثارها الحدث / الزلزال (أحداث سبتمبر) بخصوص مستقبل المنطقة العربية. واستعادة المسلمين لوحدتهم وهويتهم ومركزهم الحضاري. والهاجس الذي كان يشغل باله كيف يقف المسلمون في وجه زحف صراع الحضارات الهنتنجتوني الذي قادته إدارة المحافظين الجدد الأمريكية؛ لفرض منظومتها السياسية والثقافية والاقتصادية التي تسعى لتعميمها، وفرضها كنموذج وحيد يمثل نهاية التاريخ.
في رده على سؤال (BBC) عن طبيعة نشاطه؛ قال السيد حسين الحوثي: "نحن عبارة عن مجاميع من المسلمين ...، ونفى أن يكون ذا طبيعة أو تركيبة حزبية رغم أن التنظيم الحزبي أمر مسموح في البلد"([8]).
وفي محاضرة له يعرّف مشروعه بأنه: "منهج قائم وحركة على أساس القرآن الكريم تترفع عن كل العناوين الخاصة، وتعطي أولوية للقرآن الكريم، وتسير على هديه، وتتحرك في الساحة هذه دائرة قابلة للتوسع؛ لأن كل طرف لا يعتبر أنك تقدم الشيء الذي هو قد ثقف على أساس النفور منه نهائياً، وعندما يراك - أيضاً - بأنك تقيِّم ما لديك ولديه بنظرة واحدة على أساس القرآن، وليس أنك تحاول تؤقلم القرآن على ما لديك من تراث ثقافي وما لديك من ماذا؟ من مرجعيات سواء شخصية أو مرجعيات من الكتب".
السيد عبدالملك في رده على ذات السؤال قال: "مشروعنا الثقافي الذي نتحرك على أساسه واضح وليس سرياً، وهو ينادي بضرورة العودة إلى ثقافة القرآن الكريم، وتصحيح الوضع السيء القائم لدى الأمة على هذا الأساس باعتبار أن منشأ الخلل ثقافي والتصحيح الثقافي الذي يجعل القرآن الكريم فوق كل ثقافة؛ هو الذي يبني الأمة من جديد، ويصلح الخلل الموجود لدى الجميع، ويربي تربية صحيحة سليمة ويوصل الأمة إلى أن تكون في مستوى مواجهة التحديات التي تواجهها، ويصلح وضعها العام، ويجمع كلمتها، ويوحد صفوفها، ويعيدها إلى الألفة والأخوة الصادقة، ونرى أن كل شؤون الحياة لا تصلح ولا تستقيم إلا باتباع تعاليم الله"([9]) .
وفي خطابه له تطرق السيد عبدالملك الحوثي لبعض سمات ما يسميه المشروع القرآني للشهيد القائد، وعد منها كونه مشروعاً نهضوياً ينهض بالأمة، ويقدّم المقومات اللازمة للنهضة بالأمة، وانتشالها من واقع الوهم والضعف والعجز والتخلف([10]).
من خلال مجموع التوصيفات السابقة نستشف هوية الخطاب والمقولات البنائية للخطاب والحركة، ونفترضها كالآتي:
أولاً: يرفض ربط نشاطه أو الكيان الذي سمي فيما بعد (أنصار الله) بأي تعريفات سلفية مذهبية أو تعريفات إحيائية معاصرة، سواء الخمينية أو الإحيائية الزيدية أو الشباب المؤمن أو أن الهدف تكوين بديل لحزب الحق أو إضافة حزبية لقائمة الأحزاب الوطنية على الساحة اليمنية.
ثانياً: خطاب إصلاحي تجديدي يعتمد الخطاب القرآني مرجعية مركزية لبناء نظام معرفي على أساس سنن الله في الهداية يعيد تصحيح علاقة المسلمين بالنص القرآني، وينفي عنه الغموض والقصور الذاتي في انتاج الدلالة وتقلص دور القارئ (الفقيه، المفسر) إلى أضيق الحدود في تفسير وتأويل النص، بما يعيد للمعرفة الدينية بساطتها ويعالج أزمتنا الفكرية والثقافية والتشريعية والسياسية، وتضع حداً لفوضى الاجتهادات الفردية والتضخم في الحديث والرأي.
ثالثاً: التأصيل للهوية العربية والإسلامية الجامعة، وحمايتها من أشكال التدمير والتشويه التي تتعرض لها بفعل محاولات إحياء الهويات المذهبية والقطرية والجهوية على حساب الهوية العربية والإسلامية الجامعة.
رابعاً: أنصار الله جماعة (منظمة)، وليست (تنظيماً) بلوائح وأنظمة داخلية وبنيات هرمية بيروقراطية، بل نشاط جمعي وتيار شعبي؛ لاستصلاح المجتمع وإعادة ربطه بأصوله وهويته على أساس المنهجية القرآنية، ومن خلال الفعل النضالي الاجتماعي والفكري والسياسي، ولا يرتبط ببرنامج سياسي أو بجماعة سياسية أو مذهبية أو فئوية مغلقة، بل بكل المؤمنين متجاوزاً حدود وهموم المذهب إلى هموم الأمة.
خامساً: خطاب عام موجه مباشرة للمجتمع يعتمد استراتيجية الإصلاح الديني والتغيير الثقافي من الأسفل أو استراتيجية (التحنيف من تحت) بعبارة الخبير الفرنسي في الأصوليات الدينية جيل كيبل.
سادساً: نزعة احتجاجية ممانعة للحرب الكونية الشاملة التي قادتها الولايات المتحدة عقب أحداث سبتمبر بحجة الإرهاب، واستغلالها لفرض العولمة، كمنظومة سياسية وثقافية واقتصادية تسعى لتعميمها وفرضها كنموذج وحيد يمثل نهاية التاريخ.
وبالاسترشاد بالفرضيات أعلاه للدراسة؛ نستعرض هنا جماعة أنصار الله على مستويين:
مستوى الخطاب: ونعني به المنظومة الفكرية والمعرفية التي تحدد هوية الجماعة، وأهدافها كما تضمنتها محاضرات السيد حسين بدر الدين الحوثي التي كان يلقيها على مريديه، وتعد المرشد النظري والحركي لأنصار الله، إضافة إلى ما يصدر عن خلَفه في القيادة السيد عبد الملك الحوثي من تعليمات وتوجيهات وخطابات([11]).
مستوى الحركة أو الجماعة: ونعني بها التجلي الخارجي للخطاب بعد أن تتبناه كتلة اجتماعية أو بشرية في صيرورتها المستمرة الحاصلة عن جدل الخطاب والواقع الموضوعي، المجتمع بناه ومؤسساته، صراعاته، ظروفه، مطالبه، أولوياته، ضروراته.
أولاً: الخطاب ثنائية التخلف / النهضة
أدبيات أنصار الله تبين أن السؤال المركزي لخطاب السيد حسين الحوثي هو كيف يمكن تجاوز حالة التناقض والبؤس وثقافة الاختلاف؟ وأن القضية الجوهرية فيه هي ثنائية (التخلف / النهضة)، الثنائية المركزية في خطاب الإصلاحية الإسلامية في القرن الثامن عشر والتي برزت على إثر الصدمة الحضارية للحداثة الغربية حين فتح العرب والمسلمون أعينهم على الهوة الحضارية التي تفصل الشرق الإسلامي عن الغرب المتقدم على جميع المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية والصناعية، وحالة التخلف الشاملة للشرق الإسلامي، وكانت بمثابة المهماز الذي أيقض العقل العربي والإسلامي من سباته الحضاري([12]).
وفي سبيل الإجابة على ثنائية (التخلف / النهضة) تولد خطابان إصلاحيان:
الأول: خطاب علماني مستغرب يرى أن الإسلام غير قابل للإصلاح؛ مهما أُدخلت عليه من تعديلات؛ لأنَّ التدهور كامن في جوهرة الاجتماعي، ولا سبيل للنهضة إلا العلمنة، كخيار وحيد اعتمدته أوروبا في نهضتها الحديثة([13]).
والآخر: خطاب الإصلاحية الإسلامي بقيادة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخيرالدين التونسي، والكواكبي دافع: إن الإصلاح الإسلامي ممكنٌ، بل ضروريٌ؛ لتجاوز حالة الجمود والتردي الشامل، وينحون باللائمة على الجمود الفكري، وإقصاء العقل وإغلاق باب الاجتهاد، وتجاوز الأزمة لن يكون إلا بالعودة بالإسلام لحالة نقائه الأول، وتحرير العقل الإسلامي من القيود التي تكبل نشاطه، وفتح باب الاجتهاد والتجديد كأهم أدوات الإصلاح.
الجيل الجديد من الحداثيين([14]) يتفق مع التيار الإصلاحي في اعتماد العقل والاجتهاد أهم أدوات الإصلاح والتجديد الدينيين غير أنهما يفترقان في تحديد مضامينها وحدود وظائفها، فالتجديد والاجتهاد في الخطاب الإصلاحي هو مجرد استنباط من النصوص أو عمل لغوي سيميائي، والعقل كل مهمته استثمار النص، في حين يتجاوز التجديد - عند التيار الحداثي - مفهوم الاجتهاد التراثي في حدوده ومناهجه، ويتعدى التجديد في المضمون إلى التجديد في المنهج والشريعة إلى القصد، وعدم الاجتهاد فيما فيه نص إلى إعادة قراءة النص، النص ذاته عند أصحاب هذا الاتجاه ليس نظاماً مغلقاً وإنماً مشروعات متجددة قابلة للاكتشاف والفحص والتأويل ومن خلال هذا التجدد والحركة يتجدد الفعل ذاته وتتطور آلياته وتصبح في جدل مستمر وخلاق".([15])
سياق ظهور الخطاب الحوثي يختلف عن سياق خطاب الإصلاحية الإسلامية عند عبده والأفغاني القادمين من بيئة دينية، وموروث ديني يقصي العقل، ويغلق باب الاجتهاد، وفي سياق عالمي مبهور بالحداثة الغربية كأيديولوجيا كونية للنهضة؛ ولذلك كان أول ما فكرت فيه لتجاوز الجمود والتخلف؛ إعادة الاعتبار للعقل، وفتح باب التجديد والاجتهاد في الدين بهدف المواءمة مع الحداثة الغربية، بينما الحوثي نشأ في بيئة زيدية تمجد العقل، وتحرم التقليد، وتوجب الاجتهاد لكل من يجمع شرائطه، وعالمياً في سياق الهجمة الحضارية والعسكرية للعولمة النيوليبرالية.
ورغم اختلاف السياقين ومرور أكثر من قرن ونصف القرن على خطاب النهضة والإصلاح بكل تنويعاته، ظلت ثنائية التخلف / النهضة تراوح مكانها بل تعمقت أكثر، وبقي هم النهضة والإصلاح القاسم المشترك، والسؤال الذي كان يؤرق الحوثي، لماذا أخفقت كل محاولات الإصلاح والتجديد؟ وهل أدى إعادة الاعتبار للعقل كمصدر للمعرفة الدينية، وفتح باب الاجتهاد الديني إلى تحقيق النهضة التي تطلع لها رواد الإصلاحية الإسلامية؟ وهل الخلل في المضمون أم المنهج؟ ما السبيل لمعالجة الأزمة الفكرية والثقافية والتشريعية، وحالة الخلاف والتنابذ التي أنهكت قدرات الأمة، واستنزفتها في صراعات تدميرية، وصرفت قدراتها، وجهودها الفكرية والمعرفة في غير مجالها؟ كيف يمكن بناء أمة صلبة، وتشكيل كتلة تاريخية تكون نواة لمشروع النهضة؟ وهل القرآن مصدر الخلاف والسجال الديني (التناقض الإسلامي - الإسلامي)، وما يتبعه من صراعات سياسية واجتماعية؟ هل الخطاب القرآني قادر على حسم الخلاف؟ وإعادة توحيد الأمة الإسلامية؟ وهل التأويل العقلاني والتفسير بالأثر والأساليب اللغوية قادر على رفع التناقض والغموض في النصوص الدينية؟ هل النصوص الدينية سيما القرآن قاصرة ذاتياً عن انتاج المعنى والدلالة على المقصود الديني؟ وهل تحتاج لتدخل المجتهد لإنتاج المعنى؟ كيف يمكن وضع ضوابط منهجية ترفع الغموض واللبس المفترض في النصوص الدينية، وتحد من الاستثمار السيئ للنص؟
يخلص السيد حسين الحوثي في إجابته على هذه الأسئلة إلى تشخيص أهم أبعاد الأزمة في الاختلالات البنائية لمناهج الفكر الديني التي انعكست في الاجتماع السياسي للمسلمين على شكل متوالية من الأزمات؛ أزمة ثقافية، أزمة تشريعية، أزمة سياسية، أزمة نفسية، أزمة طائفية ...إلخ، ويلقي باللائمة على النظام المعرفي التقليدي في استمرار بقاء المسلمين في حالة أزمة مزمنة، ويتهمه بالجناية على الدين، والتسبب في اهتزاز الثقة بالخطاب القرآني، حيث معظم آياته - وفقاً لهذا النظام - نصوص ظنية قاصرة عن إنتاج اليقين الدلالي والنفسي والموضوعي.
التراث بمفهومه الواسع - سواء آليات التأويل، ومناهج القراءة، وتحليل النص - رموز دينية وتيارات دينية وتجارب تاريخية تحولت إلى سياجات معرفية أعاقت فهم الخطاب القرآني عن تحقيق وظيفته الأساسية في إخراج أمة نموذجية، وأسهمت في إعادة إنتاج الواقع المتخلف والوضعية السيئة والفوضى التشريعية، والتأسيس لألوان من الاحتراب والصراع والتنابذ وأشكال من التدين، كالتديُّن المنصرف عن الحياة )[16])، والتدين الطائفي، والاجتهادات العصابية وفتاوي التفكير.
ولذلك نقد المناهج التقليدية نقداً قاسياً، وعلى رأسها المنهج الكلامي والفقهي، وبرر ذلك بقوله: "عندما ننقد فنوناً معينة من تراثنا، أو كتباً معينة من تراثنا، ومن تراث هذه الأمة بصورة عامة، هو لأن الوضعية هذه أصبحت وضعية خطيرة، لم يعد مقبولاً أن تجامل أحداً فيها". دعا إلى ضرورة التحرر من أهم فنين في المناهج التراثية، ما يسمى بعلم أصول الفقه، وما يسمى بفن علم الكلام.
القرآن "بحر هدى، وبحر حق"؛ لكن كما يقول الحوثي: "هذا البحر مشبّك (مسيج) عليه".([17]) لذا أول خطوة في الإصلاح هي نزع هذه السياجات المنهجية، وإعادة تقييمها، والتحرر من التصورات الموثة باعتبارها حقائق غير قابلة للنقاش.
دعا السيد حسين إلى ضرورة بناء نظام معرفي يعيد تصحيح علاقتنا بالقرآن ومكانته المعرفية كسلطة معيارية ومرجعية عليا، ولا يستمد أدواته من مصادر خارجية مؤكداً أن القرآن ينتج نظامه المعرفي الخاص، أو ما يسميه نواميس أو سنن الهداية في الخطاب القرآني، يقول: "نريد أن نتعلم من خلال القرآن الكريم: أساليب القرآن، ومنهجية القرآن الكريم؛ هذا ممَّا يحتاج إليه الإنسان بالنسبة لنفسه، ومما نحتاج إليها في تعليم الآخرين في تعليم الناس نفس أسلوب القرآن في الخطاب"([18]).
المنهج المعرفي القرآني ليست مجموعة من القواعد العقلية واللغوية والعرفية - كما تضمنتها كتب الكلام وأصول الفقه - التي تنظم المعرفة الدينية بقصد التعرف على الأحكام الشرعية الخمسة، بل رؤية كلية تقدم تصوراً عن الله والرسول والكون والحياة والإنسان والقرآن من حيث طبيعته أو هويته الأصلية، وظائفه، مصدره، مجالاته، أهدافه، أساليبه المخاطبين به، تمثل الإطار الفلسفي للمنهج؛ وتؤصل لكيفية علاقة المسلمين بالنص القرآني وعلاقته بالواقع وضوابط للقراءة بالمعنى الأوسع باعتبارها فعلاً معرفياً يشمل تفسير الرسوم والرموز، والنصوص والأحداث، يقول الحوثي: "ميدان القرآن: الإنسان، والحياة. فإذا كان هناك توجيه معين؛ فاعرف بأن القرآن نفسه هو له رؤية، هو يريد أن يبني الإنسان على نحو معين، له مقاصد"([19])، وفي موضع آخر يقول: "المنهجية القرآنية، عندما تقدم الأحكام التشريعية التي هي محط اهتمام الناس يقدمها في ضمن المواضيع الكبرى، هدى الله - سبحانه وتعالى - الذي يأتي في نفس الوقت يهدي بتبيين ويهدي في إعطاء منهج لحركة الناس أن يكونوا مؤمنين بالقسط، أن يكونوا مصلحين في أرضه ...، القرآن الكريم كيف منطقه؟ كيف أسلوبه؟ أليس هو يعطيك الرؤية الشاملة، ويقدم القضايا أمامك مترابطة؟!"([20]) في إطار الرؤية الشاملة بينما رؤية أصول الفقه رؤية تجزيئية، كل قضية بخصوصها ويرى هذه القضية لوحدها، وتلك لوحدها، وتلك لوحدها في معظم ما قدم، وهذه النظرة التجزيئية - كما يرى الحوثي - تؤدي عادة إلى نتائج متضاربة، لا تنسجم في كثير من الأحيان مع أهداف القرآن في بناء الإنسان وبناء الأمة.
وبحسب علمي تعد هذه أول محاولة للاقتراب من هذا الموضوع الحيوي والجوهري في خطاب الحوثي، فوق أن المنهج عند الحوثي ليس عبارة عن قواعد مقننة؛ إنما أفكار مبثوثة في معظم المحاضرات والدروس لا سيما (دروس رمضان) التي ركزت على موضوع المنهج، لذلك يجد الباحث صعوبة في تكثيفها، وعرضها في ترسيمات جامعة، أو قواعد مضبوطة، كما أن تفاصيلها، والأسئلة التي يمكن أن تثيرها أوسع من استيعابها في دراسة كهذه، ؛وعلى أساس القيمة المرجعية للقرآن وفقاً للحوثي سنتناول أهم الأسس التي يرتكز عليها النظام المعرفي عنده وما ينبثق عنها أو يتأسس عليها من قواعد منهجية تضبط العلاقة بالنص القرآني من جهة وبينه وبين الواقع من جهة أخرى.([21])
لعل من القضايا الهامة التي ركز عليها الحوثي هي الطبيعة التداولية للقرآن؛ إذ يلفت في بعض محاضراته إلى الطبيعة الخطابية للقرآن، وانتقد ما يسمى في التراث الديني بعلوم الآلة، كالنحو والصرف والمعاني والبيان وأصول الفقه؛ لأنَّها أفقدت اللغة العربية روحها وحولتها إلى قواعد جافة لا تساعد في فهم أساليب العرب في التخاطب، وأنهم بذلك على حد قول الحوثي: "يضربوا هم القرآن؛ لأنهم "في الأخير؟ طلَّعوه ظنيات، طلعوه حمَّال أوجه"([22]) يمكن تكييفه لما يريده كل طرف، وأكد أن المنهج الصحيح لفهم القرآن أن تعرف أساليب العرب في التخاطب، باعتباره ضابط منهجي ينفي عن الخطاب القرآني الغموض والابهام وتعدد الاحتمالات لأنه "عندما يتخاطب الناس مع بعضهم يفهمون المعنى المراد كل مخاطب يفهم ماذا يريد المخاطب. أساليب التخاطب توصل المعنى المراد إلى الإنسان من خلال ما يسمعه، ومن خلال الأجواء المحيطة بالكلام، وهكذا أساليب اللغة العربية على هذا النحو يفهم الناس ما كان يريد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لم يكن ينظر أحد عندما يخاطبه النبي، هل عبارته ظنية أم قطعية([23]).
وبما أن القران خطاب بما يعنيه مفهوم الخطاب من عملية تواصلية تتضمن مرسل (الله)، ورسالة (الهداية)، ومتلقٍ (الأمة). الأضلاع الثلاثة في عملية التخاطب ندرس كل ظلع من الأضلاع الثلاثة بهدف التعرف على الضوابط والقواعد المنهجية التي تتأسس عليها([24]).
يأخذ الحوثي على المناهج التراثية - بتأثير من تركيزها على القرآن كنص - أنها حوَّلت العلاقة بالقرآن إلى عملية تفاعلية بين النص الديني (القرآن - السنة) والمجتهد معزولةً عن مؤلفه (الله - الرسول)؛ لاستكشاف الدلالات المتضمنة في النص من خلال آليات التأويل العقلي والتحليل اللغوي، وعلى أساس الوظيفة الإحالية للغة، وتعاملت مع القرآن كمدونة قانونية اختزلناها في ما يسمى في عرف الأصوليين آيات الاجتهاد (500 آية) لمعرفة الأحكام الشرعية الخمسة: (الوجوب، الحرمة، الندب، الكراهة، الإباحة) بهدف تحقيق الخلاص الأخروي، والفردي في معظم الأحيان.
يقول السيد حسين الحوثي: "الله ليس كأي رئيس دولة، أو رئيس مجلس نواب يعمل كتاب قانون، فنحن نتداول هذا الكتاب، ولا نبحث عمن صدر منه بالنسبة لمن صاغه، ربما قد مات، ربما قد نفي، ربما في أي حالة، ربما حتى لو ظلم هو لا يهمك أمره. ولا يهمنا أمره، ما هذا الذي يحصل بالنسبة لدساتير الدنيا؟ دستور يصدر، أنت تراه وهو ليس فيه ما يشدك نحو من صاغه، وأنت في نفس الوقت ليس في ذهنك شيء"([25]).
بمعنى آخر العلاقة مع القرآن ليست مجرد علاقة مع نص فني ونظم وأسلوب، كما هو الحال في نظرية موت المؤلف، حيث تنحسر العلاقة بين النص وكاتبه إلى أضيق حد، بحيث أصبحت سلطة المؤلف لا تتعدى نسبة النص له.
العلاقة مع القرآن تمر عبر صاحب الخطاب كمقدمة منهجية؛ لفهم القرآن، وعلى حد الحوثي: الله لم يجعل حتى القرآن بديلاً عنه في معرفة الحق، ولا مصدراً للمعرفة معزولاً عن الله، والمعرفة الجيدة بالخطاب القرآني تمر من خلال المعرفة الجيدة بصاحب الخطاب، فيقول: "بقدر ما تعرف كمال الله سبحانه وتعالى فإن دينه انعكاسٌ لكماله، كاملٌ بكمال مشرَّعه، كامل بكمال من هدى إليه"([26])، وفي قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}(البقرة، من الآية 147). يقول: "اعرف ربك لتعرف طريق الحق وستجد في الأخير لا تشكل كل الأشياء الأخرى عوائق أمام معرفة الحق وطريق الحق ومواقف الحق"([27])، لذلك معرفة صفات الكمال لله عظمته، علمه، حكمته عدله، رحمته ... إلخ؛ ليست عقائد قلبية مجردة، فأحد دلالات صفات الكمال لله أنها تمثل ضوابط منهجية تحمى من دخول اللبس على النص، وتحد من تعدد احتمالاته.
يقول القرآن "مبني على أن الله رحيم وعلى أن الله حكيم، وعلى أن الله بكل شيء عليم، وعلى أن الله غالب على أمره، وأنه على كل شيء قدير، وأنه هو الذي خلق الإنسان ولهذا قال:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}(الملك: من الآية14) {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(الفرقان: من الآية6) وأنه غني تجده في كل مضامينه كلها، لا تجد وكأن قضية معينة تبدو تختلف مع أنه رحيم، أو قضية معينة يظهر فيها تتنافى مع أنه حكيم أو مع أنه غني أو مع أنه يعلم الغيب والشهادة، لا يوجد كلها مصاديق يصدق بعضه بعضا،."([28])
يرمي الحوثي إلى القول إن التركيز على القرآن كنص وبنية لغوية؛ تنشئ الكثير من الإشكالات وتمثل عوائق معرفية ووجدانية، فمعظم النصوص الدينية تتحول إلى نصوص مفتوحة على كل الاحتمالات المتعارضة والمتناقضة بما يتناقض مع سمو وكمال الله.
وكونَ معظمِ نصوص القرآن ظنية شكّل مبرراً مناسباً لإحالة المهمة للمفسر والمجتهد، كخبير ومتعهّد رسمي يحمي النصوصَ، ويستنطقها، ويمنحها دلالتها ومعانيها، وأصبـح دوره محورياً في ضبط العلاقة بين الدال والمدلول اللفظ والمعنى، ولا توجد ضوابط أو عصمة أخلاقية تضمن عدم تلاعبه بالنص بعد أن أصبـح نصاً مفتوحاً على كل الاحتمالات، وتتيح لكل مجتهد يحمّلها من المعاني ويقرأها من خلال وعيه الذاتي والفردي.
وأكثر القضايا خطورةً هنا أنها تؤسِّس لسلطات مرجعية ثانوية تزيحُ السلطاتِ المرجعية الأصلية لصاحب النص لتتمحور حول المفسر الخبير الذي يمتلكُ وحدَه سلطةَ تفسير النص، والقرآن يتحوّلُ إلى نَصٍّ طُقوسي للبركة، أما المعرفة الدينية؛ فتحتويها كتب التفسير.
كما أنها منحته حق وضع التشريعات نيابة عن الله فيما أغفلته النصوص أو سلطة الاجتهاد فيما ليس فيه نص وسلطة تفسير وتأويل النصوص الملتبسة، وهي النسبة الأكبر من النصوص الدينية كما سبق، والأخطر من ذلك أن مراد الله صار تباعاً لمراد المجتهد وفقاً للقاعدة الأصولية، واقتصار دور الله على إقرار اجتهادات المجتهدين أو على حد السيد حسين الحوثي: "جعلوا من الباري مدير مكتب يوقع أو يختم ما يرفع إليه من اجتهادات متعارضة ومتناقضة في معظم الأحيان عليها، وأسس لتشكل نصوص ثانوية سلفية (أقوال الجيل الأول) لا تقلّ أهمية عن النصوص الأساسية. يقتصر دور الله على اعتمادها ومنحها الشرعية أو كما قال الإمام على - عليه السلام -: "أكان عليهم أن يشرِّعوا، وعليه أن يرضى"!
الإشكالية الأخرى: إهمال العلاقة الوجدانية التي يكونها القرآن بين الإنسان وربه، والتعامل مع القرآن بعقلية قانونية جافة تختزل الخطاب القرآني في مجموعة من الواجبات والمحظورات بهدف الحصول على مكافأة أخروية، أو لتجنب إنزال عقوبات عليه. أفقدته رمزيته الروحية، وأفقدت تعاليمه سموها الروحي والأخلاقي "بعد أن أصبح الفقه في حد ذاته عبارة عن فن مستقل تقدم فيه مسائل فيما يتعلق بالعبادات، والمعاملات مسرودة سرداً قانونياً، صياغة أشبه شيء بالصياغة القانونية. لكن الأسلوب القرآني يُلحظ بأنه هناك شيء هام جداً هي نفسية الإنسان، نفسية الإنسان، ولهذا قلنا: أنه من معجزة القرآن الكريم، أنه استطاع أن يجعل العرب يتقبلون هذا التشريع، وهم أمة من البداية ليست أمة متحضرة، وليست أمة تألف أشياء تعتبر حدوداً وضوابطاً وتقنيناً من هذا النوع، ما كانوا آلفين لهذه، وهي عملية كبيرة في الواقع، تعني: نقلة من حالة اللاالتزام بشيء تقريباً، مجتمع ليس آلف لأن يكون لديه ضوابط وحدود، وأشياء معينة أشياء ما تسمى قانونية، ثم ينقل نقلة إلى مرحلة التزام بحدود وضوابط، وتشريعات محددة، أن هذه تعتبر معجزة حقيقة للقرآن، لكن أنظر إلى الأسلوب الذي قدم فيه القرآن تلك التشريعات، لم يقدمها بمعزل عن مشاعر الإنسان نفسه عن الأسلوب الذي يلامس نفسية الإنسان حتى يتقبل تلك التشريعات بمختلف أنواعها"([29])
تعاليم الدين تعاليم سامية بذاتها تسمو بالإنسان والحياة؛ "لأن الله عندما يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء، 70) تلحظ كل توجيهاته كل تشريعاته كلها هي تلحظ التكريم للإنسان، تلحظ التكريم للإنسان، بينما ما يأتي من عند الآخرين لا يلحظ التكريم على الإطلاق، يؤدي إلى إهانة، إلى حط لمستوى الإنسان هو كمخلوق كرمه الله تحطه"([30]).
المهمة الأساسية أو البؤرة الدلالية - كما يسميها نصر حامد أبو زيد - للقرآن وفقاً للنظام المعرفي التقليدي؛ كونه مصدراً لإنتاج أو استنباط الأحكام الشرعية([31])، في المقابل يؤكد الحوثي على أن القرآن خطاب هداية المهمة الأساسية له هي الهداية، والهداية هي خلق وعي منهجي، ورؤية للكون والحياة والإنسان تمثل أسساً للقراءة بمعناها الأوسع التي تشمل قراءة الأحداث، وقراءة نصوص القرآن، يقول: القرآن "هدي الله ليس مجرد نظريات، ولا حتى مجرد فتاوى، إنما هو ماذا؟ حركة حياة، هدى عملي، هدى حركة"([32])، وعند الآية:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية 103) يتساءل الحوثي: "ما هو الاهتداء؟ أليس هو الوعي؟ أليس هو الفهم الذي يدفعك إلى الالتزام والعمل وفهم الأمور، وفهم القضايا، وفهم ما تستلزمه مسيرتك العملية على منهج القرآن؟"([33]).
القرآن خطاب هداية وإرشاد، وخطاب فعل وتوجيه، والخطاب التعليمي أو الإرشادي بطبيعته خطاب عملي بين لا يحتمل اللبس يتلقى فيها المخاطب رسالة واضحة، والنتيجة التي يخلص إليها الحوثي أن الخطاب القرآني لا يمكن أن يكون مصدراً لسوء الفهم؛ لأنه معيب في حق الله تعالى، وفي حق الرسول أن يخاطبنا بخطاب ملتبس أو يوجهنا للعمل بخطاب مشوش وغير واضح.
وكون القرآن خطاب هداية؛ فإن من أهم سماته الوضوح والبساطة، ولذلك سماه بينات وصراطاً مستقيماً، وينفى عنه أن يكون مصدراً للبس أو لسوء الفهم والاختلاف؛ لأنها تتناقض مع وظيفته الأساسية كخطاب هداية موجه لعموم الأمة "بلسان عربي مبين ومن يريد هداية الناس لا يرشدهم بخطاب ملتبس يؤسس للاختلاف والنزاع وفوضى الفتاوى والتشريعات والرأي بما لها من ارتدادات، ومفرزات مدمرة للاجتماع الإسلامي، يقول الحوثي: "هذه تعتبر أساسية في موضوع المعرفة يعني: أن يكون عندك ثقة بأن دين الله هو صراط مستقيم وواضح، طريق واضح، (هذا) سينسف أمامك أن الإنسان موكول إلى ظنه، (كما) قدمت القضية في الأخير هكذا: أن الإنسان موكول إلى ظنه، إذاً كل واحد يدبر حاله! ألم تقدم هكذا؟! على أساس أن ما هناك شيء ...، أن الله لم يقدم شيئاً، وفعلاً هم يقدمونها بطريقة استدلالية، يقدمونه كدليل على وجوب اعتماد هذه الطريقة، أنه لا يوجد معنا أدلة يقينية، أليسوا يقولون هكذا؟ فما بقي إلا أدلة ظنية، وأمارات، وظنون، وكل واحد على ظنه، لا أحد ملزم بأن يتبع ظن الآخر، ينطلق كل واحد على ما غلب في ظنه؛ ليعرف دين الله"([34]).
من السمات الأخرى للمعرفة (الهداية) في المنهجية القرآنية عند الحوثي ارتباطها بحركة الواقع وتطور خبرات الإنسان فالقرآن لا يفصح عن معناه دفعة واحدة حيث تتدخل السياقات التاريخية والاجتماعية والتراكم المعرفي في كشف المعاني المتجددة للخطاب القرآني ، يقول في قوله تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}(البقرة: من الآية189) القاعدة من أساسها لا تعني: بأن الله لا يريد للناس أن يعلموا، إنما أن يعرفوا أن للمعرفة منهجية، أن تكون مرتبطة بحركتهم العملية، تتوسع معارفهم، وتتوسع مهامهم، تستوعب ربما أكثر مما استوعبه الآخرون"([35])، فالمعرفة مرتبط بوظائف الحياة ضمن مسيرة، "هذا منهج علمي في المعرفة بالنسبة للقرآن الكريم إذا حاول الإنسان أن يستبق الأشياء، فستتحول الأشياء كلها عنده إلى مجرد جدل ونظريات وأبحاث جامدة فقط مثل مدارس العرب الآن يتحدثون عن القمر، وعن صعود القمر، وأشياء من هذه، فاعتبرها عندهم مجرد نظريات جامدة وبحث وجدل" ([36]).
وعليه يؤكد الحوثي على ما يمكن أن نسميه جدل القرآن، والواقع أو بشيء من التجوز القراءة بمفهومها الحديث - كفعل معرفي يشمل العلامات اللغوية وغير اللغوية، حيث الخبرة الكافية به شرط في فهم القرآن ذلك أن: "القرآن مربوط بالحياة، وبالحركة، والأحداث لها دخل كبير في الاستفادة منه، والجهاد في سبيل الله، نصر دين الله، الاستجابة لله هي تكون بهذا الشكل، لها دخل كبير، في ماذا؟ في الاستفادة منه، وفي تبيينه. ولهذا نقول بالنسبة لحركة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) حركته هي من التبيين، حركته هي تطبيق. لا تتصور أن باستطاعة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هو أن يجلس في مسجده ويبين القرآن كلمة كلمة، ويبين معانيه، بل هو نصه تنزل عليه مرتباً، أو منجماً - كما يقولون - على مدى ثلاثة وعشرين سنة، مرتبط بالحركة، وبالحياة"([37]).
القرآن لا يقدم فتاوى معلبة، ونظريات جاهزة نفترضها بعيداً عن تطور حركة الواقع واحتياجاته وتعدد التركيبات الاجتماعية للمجتمعات، "وكأنه يشرع لمجتمع واحد فقط!"، ثم نسقطها على كل المجتمعات، ومن هنا إنكار السيد حسين للنسخ في القرآن، فبقاء ما يفترضونه آيات منسوخة لا يمكن أن يكون ترفاً للبركة؛ إنما بهدف تحقيق المرونة اللازمة في التشريع ليتنزل على تطور حركة المجتمع والواقع، فهو يرسم أهدافاً طويلة للوصول بالمجتمع إلى الحالة النموذجية للمجتمع أو المجتمع الفاضل ويعمل على الارتقاء بها تدريجياً([38]).
ينتقد الحوثي النظرة الفردية للدين، واعتباره خطاباً للأفراد بصفتهم الفردية، وليس بصفتهم أعضاء في جماعة، واختزال وظيفة الدين في تحقيق الخلاص الفردي الأخروي، واختزال القرآن ضمن خمسمائة آية بينما بقية آيات القرآن أصبحت ذات دور ثانوي وعظي([39]).
الفردية التي طبعت الاجتهاد لا تقتصر على الناحية الموضوعية؛ إنما - أيضاً - من ناحية فردية الممارسة، حيث توكل المهمة برمتها للمجتهد والفقيه الفرد مع منحه هامشا واسعاً من الحرية، وحق الاختلاف إضافة للصلاحيات الواسعة في التصرف مع النص.
وبناءً على قاعدة "لكل مجتهد أجر، فإن أصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ؛ فله أجر"، فإن تقييم نتائج الاجتهاد متعذر؛ لأن انكشاف نتيجته مرتبط بالغيب، وعدد الأسهم التي يحصل عليها مكافأة اليوم الآخر؛ لجهوده هناك، ولا تلحظ نتائجه الخطير والكارثية على المسلمين المتمثلة في التناقضات والتعدد وفوضى الرأي والتشريع([40]) التي ينتفي معها واقعية المضمون الاجتماعي للكلية النظرية الإسلامية التي يشتملها الخطاب القرآني "فلا تبتني عليه أمة ولا يقوم عليه نظام على الإطلاق" حتى أولئك الذين يرفعون شعارات التعددية الحزبية، وحرية الرأي في النظام الديمقراطي عندما يتعلق تشريعات قانونية ودستورية؛ فإنهم يحسمون الموضوع كما يقول فيما لأنهم عارفون أنه لا يمكن نقول تعددية وحرية في كل شيء بما فيها فيما هو نظام؛ لأن معناه ألا يكون هناك نظام يحكم الجميع ولا يسمحون بتعدد الاجتهاد في تفسيرها ويلجؤون لآلية معنية لحسم الخلاف، "فيما لو حصل اختلاف في فهم نص دستوري، فليس الموضوع يخضع لاجتهادات المختلفين، هناك محكمة دستورية فيها شعبة معينة تختص بتفسير نصوص الدستور، عندما قانون ينـزل من مجلس النواب (هل) يسمحون للقانونيين والاقتصاديين والمثقفين أن يقدموا اجتهادات، وكل واحد ملزم بما أدى إليه نظره؟ وكل واحد يقلد بعده من قلد؟! أعني القضية يعرفها الناس بأنها خطأ وقد أصبحت معروفة بأنها خطأ، بكل وسائل المعرفة وما نزال متشبثين بها في دين الله الذي هو نظام للبشر جميعاً لتقوم عليه أمة واحدة" ([41]).
غير ذلك يرى الحوثي أن تقييم نتائج الاجتهاد، والأعمال الحسنة والسيئة ممكن عن طريق ملاحظة آثارها على الحياة ووظائف الاستخلاف. المعصية والخطيئة نتائجها مرتبطة بشقاء الحياة، الضلال ليس حكما دينيا، بل نتيجة عملية يقول الحوثي: "المعصية نفسها، هي تحط حياة الإنسان إلى درجة تبدو وليس لها وزن، تشقي الإنسان، المعصية ليس فقط قضية العقاب الأخروي عليها، بل في الحياة هنا ...، فيما يتعلق بشقاء الحياة، كما يأتي في قوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامة أَعْمَى}" الله يذكِّرنا بأن الأعمال هنا في الدنيا تستطيع أن تعرف أن الأعمال مقبولة، ولها قيمة، أو أنها محبطة، يربط بين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، يقول هناك:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(العنكبوت: من الآية27) فنظرنا إلينا وإذا نحن ملايين مصلين، وملايين يحجون، وملايين يصومون ...، ولكن هذه الأمة رأينا واقعها بالشكل الذي يبدو أن كل هذه الأعمال قد فرغت من محتواها، ولم تعد ذات قيمة بالنسبة لواقعها، إذا لم تعد ذات قيمة بالنسبة لواقع الحياة فاعلم بأنها ليست ذات قيمة عند الله؛ لأنه هو الذي وعد أنه إذا كانت الأعمال متكاملة، ومقبولة، سيجعل لها أثرها هنا، وأثرها في الآخرة، فإذا لم نلمس لها أثرها هنا يعني ماذا؟ أنها ليست مقبولة، ليست أداء للدين"([42]).
بسبب فردية الاجتهاد تعذّر تشكيل أمة أو كتلة تاريخية تتحمل مشروع النهضة، وبسبب النظرة الفردية للدين تعطلت أهم وظائفه، وهي بناء أمة، وتعطلت كل المهام الجماعية؛ لأنها مشروطة بالاستطاعة، وحسب الحوثي: "هذا الذي حصل عند الناس، عندما ترسخت النظرة الفردية، لم يبق لديهم ما يتناولونه إلا الأشياء الفردية، تراهم مصلين، وصائمين، وحاجين، ومزكين، ومتصدقين، الأشياء الأخرى وهي المساحة الواسعة ...، قعد عنها الناس بسبب هذه النظرة الفردية، إلى درجة أن الأشياء الأخرى لم يعد لها قيمة في واقعنا"([43]).
القاعدة التي ينطلق منها الحوثي لتجاوز سلبيات الفردية التي طبعت العملية الاجتهادية من الناحية الموضوعية؛ هي أن نعيد الاعتبار للقرآن باعتباره خطاباً للأمة، وكون القرآن خطاب للأمة قاعدة منهجية أو ضابط منهجي ينفي أي تأسيس؛ لتقنيين الاختلاف، وفوضى التعدد باسم الاجتهاد خصوصاً فيما له علاقة بالنظام العام؛ لأنها غير ممكنة من ناحية عملية، وتتناقض كما يقول الحوثي مع "الوحدة في الإسلام كمبدأ وقاعدة هامة"، ومع القاعدة المنهجية الأخرى، وهي "أن كل ما هو هام وكل شيء في القرآن هو يرسم طريقته كاملة رسمها رسماً كاملاً ...، ولا يتركها مطروحة للأمزجة والأطروحات المتعددة"، ولذلك القرآن رسم الوحدة على أساس الاعتصام الجماعي بحبل الله "كلمة حبل أليست من المفردات التي لا يمكن أن تتصور فيها أكثر من شيء واحد؟ حبل يعني أوضح عبارة تعطيك التعبير عن وحدة المنهج والطريق والموقف والكلمة، وأن الله هو يدلي حبلاً واحداً لا يوجد هناك حبال متعددة، وكل واحد يمشي على مزاجه، ويمسك بالحبل الذي يعجبه ليست هكذا هو وضع حبلاً واحداً هو دلى لعباده حبلاً واحداً يتمسكون به".([44])
وهذا يقود للقاعدة الثالثة المرجعية المطلقة للقرآن الكلمة السواء، وإسقاط كل المرجعيات الثانوية؛ سواءً نصوص أو وسائط سلفية زمنية أو مذهبية أو شخصية - حرق التراث أو حرق المكتبات - إذ لا يوجد نموذجاً سلفياً مفارقاً أو فوق تاريخي قابل للإسقاط العابر.
وبهذه الطريقة نقطع الطريق، أي محاولة لأقلمة، وتكييف لأي عناوين مذهبية أو مرجعيات ثانوية "منهج قائم وحركة على أساس القرآن الكريم تترفع عن كل العناوين الخاصة، وتعطي أولوية للقرآن الكريم، وتسير على هديه وتتحرك في الساحة هذه، دائرة قابلة للتوسع؛ لأن كل طرف لا يعتبر أنك تقدم الشيء الذي هو قد ثقف على أساس النفور منه نهائياً، وعندما يراك - أيضاً - بأنك تقيِّم ما لديك ولديه بنظرة واحدة على أساس القرآن، وليس أنك تحاول تؤقلم القرآن على ما لديك من تراث ثقافي وما لديك من ماذا؟ من مرجعيات سواء شخصية أو مرجعيات من الكتب"([45]).
ويضيف: "مسلمين لله هذا العنوان الرئيسي نرجع إلى أن نحمل عنوان مسلمين، والناس ربما في المرحلة هذه أحوج ما يكونون إلى أن يحملوا هذا العنوان وحده فعلاً في المرحلة هذه بالذات في موضوع صراع عالمي، أليس هناك صراع عالمي الآن؟؛ لأن هذا هو العنوان الهام الذي يجعل هذا الدين مقبولاً عند الآخرين عند البشر جميعاً لا يؤطر بأطر قومية بأطر عرقية معينة بأطر إقليمية نهائياً؛ لأن كلمة إسلام كلمة عامة بمعنى: إسلام لله والبشر لديهم معرفة بالله سبحانه وتعالى"([46]).
من ثم ينتقد الحوثي فكرة التقريب بين المذاهب ليس لأنها سيئة، بل لأنها تلفيقية، وغير عملية، ويستشهد لذلك بجهود المصلحين الدينيين من جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده إلى الخميني في توحيد الأمة؛ لكنها فشلت بسبب أنها لم تقم على قاعدة صحيحة تعالج سبب الأزمة من جذوره.
المعلوم أن النبوة هي المجلي الأبرز للشهود الإلهي في التجربة الإنسانية التاريخية المؤيدة والمصادق عليها من السماء في المجال المعرفي والهديوي، يهدون إلى النموذج التطبيقي الأمثل للدين ويشرفون على التجربة التطبيقية له في واقع الحياة "لأنه عادةً ومن ضمن الوظائف الأساسية للرسل والأنبياء أنهم ليسوا فقط مبلِّغين بالكلام والحديث والبيان، بل عادةً هم يعملون هم على إقامة تلك المبادئ، والقيم، والأخلاق على إقامة الدين بتفاصيله الأخلاقية وغيرها)[47]).
اختتام النبوة أعمالها بمحمد (ص) يضعنا أمام مشكل على هذا المستوى من جدل الإلهي والإنساني، لأن الحاجة الناتجة عن الفراغ الذي خلفه موت النبي هي التي استدعت لظهور دور الفقيه والمفسر والمجتهد.
بوفاة النبي واجه المسلمون معضلتين في علاقتهم بالنص القرآني، الأولى الانتقال من لحظة التنزيل إلى لحظة التأويل، والثانية التحول في ماهية النص من الطبيعة التداولية الشفهية إلى نص مكتوب منفصل عن سياقاته الزمانية والمكانية، الباحث اللبناني قانصو يوضح أثر المعضلتين كالتالي "في لحظة النزيل أو التأسيس الذي هو زمن النبي، حيث كان النص ينطق بنفسه يملك قدرة تفسير مقصده ودفع الشبهات عنه لوجود النبي المؤسس الذي يملك صلاحية توضيح مراد أي قول ديني، نبوياً كان أم قرآنياً، وتعيين وجهته ومعناه. في هذه المرحلة كانت العلاقة بين القول الديني وبين الناس علاقة إنصات (أو علاقة اتباع) واستماع للكلام الالهي لا يملكون حق التأويل أو التفسير أو الاجتهاد فهناك جهة واحدة حصرية تملك الحق في ذلك، وبغياب النبي صار النص الديني مكشوف الظهر، وموضوعاً في تصرف المسلمين من دون دفاعات ذاتية به وعرضة لسوء الاستعمال، فبعد أن كان النبي يحسم أي جدل أو شك حول معنى الوحي ودلالاته، استحال نصاً مدوناً ومفتوحاً، يضع نفسه بين الناس ليقرؤوه ويفسروه ويؤولوه. ومنفصـلاً عن أصل نشأته ومتحرراً من أي قيود ظرفية زمانية ومكانية ومستقلاً عن شخص قائله أو مبلغه، وقابلة للإسقاط على أحداث جديدة ،ما سهل، بقصد أو بغير قصد سوء استعمال النص الديني عبر توظيف آياته في مواضع لا تتوافق مع المواضع الأصلية التي نزلت فيها أو لأجلها ..وبعد اللحمة الحاصلة بين شخص النبي وقول الله ومـراده، التي فرضت اتباعاً وإنصاتاً وطاعة، أصبح المسلمون متروكين لمصيرهم، وعليهم المبادرة لتعويض غياب المؤسس، ونقل مجمل التجربة النبوية إلى نص مـدون، أي نقله من حالة التداول الشفاهي إلى وضعية موثقة منضبطة، تحسم الجدل حول مادة الوحي وتوحُد المسلمين حول مرجعية موحدة، وتضمن استمرارية ثابتة وحضوراً دائماً لوحي الله في حياة المسلمين...")[48]).
مر بنا أن الحوثي من خلال محاولته التأسيس لنظام معرفي يقوم على الوعي بسنن الهداية في الخطاب القرآني بالاعتماد على القران كنظام أو سلطة مرجعية مركزية، و ما يتأسس عليها من قواعد تضبط علاقة النص بالقارئ (المفسر ،الفقيه ،المجتهد) وعلاقة النص بالواقع التي يرى أنها تنفي الغموض أو القصور الذاتي عنه وتفسح دوراً لتطور حركة الواقع في إفصاح النص عن معناه، وتقلص من صلاحيات المفسر أو الفقيه في تأويل النص والاستثمار الخاطئ له إلى أضيق الحدود، ونقد الفردية في الاجتهاد والدفع بدور العلماء إلى المجال الثقافي والتزكوي، وهي جملة تعالج كثيراً من المعضلات الآنفة ،وفوق هذا يستبعد الحوثي "أن يهمل الله هذه الأمة وهي ستواجه قضايا كبيرة ومستجدات كثيرة يتركها وهي آخر الأمم ويبعث لها نبياً ويقول لها هذا خاتم الأنبياء وكتاباً واحداً ثم يقول لها هذا آخر الكتب ثم يقفل الملف "([49]) ويخلص إلى أن الأمة تظل بحاجة إلى أعلام هدى "تلتف حولهم (الأمة ) يجسدون القرآن ويهدون بالقرآن، ويرشدون الأمة بالقرآن، ويعملون على تطبيق القرآن في أوساط الأمة.."([50])
العلم / أعلام الهدى (الإنسان النموذجي) وفقاً للحوثي لا يتخذ الصورة التقليدية لرجل الدين كخبير بفقه نصوص وظيفته الفتيا الفقهية، ولا رتبة روحية خالصة كرتبة الولي في المذهب العرفاني ولا تمنحه صلاحيات تشريعية كتلك التي للأئمة الاثني عشر عند الجعفرية، ولا رئاسة تنفيذية كتلك التي للإمام في التراث الزيدي.
يفضل الحوثي مصطلح "علم / أعلام على مصطلح إمام / إمامة" الذي ارتبط بالإمامة السياسية والذي يفهم من كلام الحوثي أن مقولة الأعلام مقولة معرفية قاربها في التأسيس لنظام معرفي بديل للنظام المعرفي التقليدي العقدي والفقهي ولم يعالجها كمقولة سياسية في نظام الحكم أو نظرية في الإدارة السياسية أو منصب سياسي يستمد سلطته من مؤسسات القهر المادية والمعنوية.
مقولة العلم في الخطاب الحوثي فعالية اجتماعية وتاريخية تحولية للوعي الفردي والاجتماعي أقرب لأن تكون نظرية في القيادة الأخلاقية، تستمد سلطتها الاجتماعية من رصيدها الرمزي والوثوق الذاتي للجمهور بها ومن مشروعها الأخلاقي وبالتالي انتفاء عنصر القسر والإكراه عنها. وهو ما يشي بالوظيفة المعرفية والتربوية والسلطة الرمزية للعلم المتمثلة بالهداية بالقرآن والإيناس إلى الحق والقدوة الحسنة والترجمة الاجتماعية للخطاب القرآني، والحد من الخلافات.
أنصار الله ليست فكرة مجردة يسهل القبض عليها في ترسيم جامع مانع على حد المناطقة، ولا هي نزعة علموية يمكن قراءتها من خلال الأدب النظري لها فقط؛ وإنما ذات طبيعة حركية عملانية، وبالتالي ليست نسقاً جامداً ومغلقاً، ولا مقذوفاً فضائياً نشأ معزولاً عن السياق العام المحلى والعالمي؛ وإنما مسار من التشكلات تولدت جنيناً من المحاضرات التي كان يلقيها السيد حسين بدر الدين الحوثي على مريديه في قاعات (مدرسة الإمام الهادي) في منطقة (مران) التابعة لمحافظة (صعدة)، وفيها البنية المعرفية والفكرية الكامنة لهذه الظاهرة الاجتماعية والثقافية الآخذة في التمدد والاتساع جغرافياً وشعبياً وذاتياً.
مسار تشكل جماعة أنصار الله مر بسلسلة من الأفعال المتصلة والتحولات الدراماتيكية والتطورات المتسارعة والقفزات الفجائية والتحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية التي أسهمت في بلورة هويتها، وتشكيل لحمتها العضوية، وتطوير خطابها وفي إحداث تحولات بنيوية على مستوى الفعل والبناء، وإعادة ترتيب الأولويات المرحلية والاستراتيجية.
يؤرخ العام 2000م للبدايات الأولى لتولد جماعة أنصار الله (الخطاب والحركة)، بعد أن قطع السيد حسين دراسته العليا في السودان، وقرر الاستقرار بمقر إقامته في منطقة مران، وفي نيته التفرغ لمشروعه الديني، والذي يمثل الخلاصة التي انتهى إليها بعد حياة غنية بالتجارب الفكرية والسياسية، والمراجعة النقدية المكثفة لها.
من الوهلة الأولي بدا عليه أنه من طبيعة مغايرة للفعاليات والمناشط الزيدية التقليدية والإحيائية، وغير متصالح مع الأشكال السائدة من التدين التقليدي، ويتفارق مع منتدى الشباب (تأسس في 1991م)، من حيث الأهداف والوسائل والرؤية؛ لذا كان يتوقع أن يثير مشروعه الجديد بعض ردود أفعال مخاصمة من المرجعيات التقليدية الزيدية والإحيائيين الزيديين ومجموعة الشباب المؤمن كما سيأتي.
جماعة أنصار الله جماعة منظمة، يقوم تضامنها الداخلي، ووحدتها العضوية على وحدة القيادة والمشروع "تأسست بالأصل كحالة فكرية ودينية منذ العام 2000 على يد السيد حسين الحوثي، وكان يطلق على مؤيديها وصف (جماعة الشعار) نسبة إلى تبنيهم (الشعار) أداة ووسيلة رئيسة؛ لنشر أفكارهم ورؤاهم الفكرية والدينية، مع غياب تام لأي رؤية أو برنامج سياسي محدد([51]).
اتساقاً مع رأي الحوثي في أن النشاط الإسلامي لا يجب أن يسيج بسوارات قومية أو جغرافية أو تنظيمية؛ فإن جماعة أنصار الله لم تنشأ تنظيماً بلوائح وأنظمة داخلية وبنيات هرمية بيروقراطية، وإنما أراده الحوثي فعلاً دعوياً وتياراً شعبياً واسعاً، فيه الدعوة إلى الله ومحاولة استصلاح المجتمع، وإعادة ربطه بأصوله وهويته من خلال الفعل النضالي الاجتماعي والفكري والسياسي الذي لا يرتبط ببرنامج سياسي أو بجماعة سياسية أو مذهبية مغلقة، بل بكل المؤمنين([52]).
التضامن الداخلي للجماعة إضافة للمشروع أو الخطاب يعتمد على القيادة المركزية التي مثلها السيد حسين الحوثي في البداية، ثم من بعده السيد عبد الملك الذي نجح في سد الفراغ القيادي الذي تركه الغياب المبكر للمؤسس الأول على الصعيدين النظري والحركي، وأبان عن حنكة سياسية ومقدرات قيادية عالية، استطاع أن يجتاز بأنصار الله أهم التحديات والمنعطفات الصعبة، وقيادة الانتصارات الباهرة، والسمعة الجاذبة والتوسع الشعبي، حيث يتناغم في شخصيته المفكر الديني والمناضل السياسي والثوري مع قدرات فائقة في مخاطبة الجماهير والاتصال بهم من خلال التأويل النضالي للنص الديني والتركيز على المضمون الاجتماعي للدين المنحاز لمصالح الجمهور، وتوظيف النظام الرمزي للدين وتثوير طاقته الروحية كسلاح فعال لمخاطبة الوجدان الشعبي، وتنمية الوعي وتحريك الجماهير واستعذاب التضحية؛ لتحقيق التغيير المنشود.
منطق تطور جماعة أنصار الله محصلة لجدلية الخطاب والواقع، جدلية الأمة (كرابطة روحية تضامنية) والدولة (كرابطة سياسية وقانونية) وجدلية الإسلامي والوطني، الخطاب هو المحدد النظري لهوية الحركة غير أن ظروف وشروط الواقع وبناه ومؤسساته تتدخل في إعادة تشكل وتطوير البنى الداخلية التنظيمية، وتحديد أولويات الخطاب، وحتى التعديل والتطوير لهوية الخطاب، وبحكم توسع نفوذها وتنامي شعبيتها الجماهيرية وزيادة فعاليتها وصولاً إلى الاشتراك في السلطة، والتحول إلى جزء من توازناتها، فإنه وضع أنصار الله أمام تحدي المواءمة استحقاقات الخصوصية الوطنية، وتعقيدات الواقع السياسي وتوازناته، وعلاقته بالفاعلين الإقليميين والدوليين ونحوها؛ مما يشكل قيداً صارماً على تطلعاتها، وموجبات الثقافة القرآنية المعرف لهويتها الاستراتيجية.
في صيف 2004م، وبسبب ظروف المواجهة التي امتصت معظم اهتماماتهم؛ تشكلت بنية تنظيمه ذات طابع عسكري احترفت فيه من ناحية التنظيم ومن ناحية الإنجاز، كما أسهمت في اتساع القاعدة الجماهيرية وتعاظم نفوذهم السياسي، وصاروا مكوناً اجتماعياً مؤثراً وفاعلاً في المشهد السياسي، وتياراً سياسياً يجتذب إليه طيفاً واسعاً من المحازبين والمناصرين، ومع ثورة فبراير 2011م دخل أنصار الله مرحلة جديدة ثم ما تلاها ابتداءً من مؤتمر الحوار الوطني، ثم ثورة 21 سبتمبر، والإعلان الدستوري عقيب استقالة هادي وبحاح والانخراط المباشر في العملية السياسية اليمنية؛ كلها مثلت منعطفات نوعية وضعتهم في مواجهة استحقاقات سياسية واقتصادية وأمنية لم تكن ضمن أوليات استراتيجيتها الحركية، وأصبحوا مطالبين بالإسهام في مواجهة هذه الاستحقاقات، وتقديم رؤى وبرامج لمعالجة، والاشتراك في السلطة أو التحول إلى جزء من توازناتها فرض عليها برامج ومهمات على المستوى الوطني والانحكام لاستحقاقات الخصوصية الوطنية والمرحلية([53]).
بإزاء هذه التطورات المرحلية كانت الحركة تطور بنيتها التنظيمية بما يتناسب وتطور الأحداث وضرورات المرحلة؛ وكي تحافظ على هويتها كتيار شعبي وضرورات التنظيم سعت قيادة الحركة لاختيار شكل تنظيمي مرن يباعدها عن سلبيات التنظيم الحزبي وانعكاساته على العمل الثقافي والسياسي الشعبي، ويتجنب الوقوع في إشكالية الانغلاق على الذات والعصبوية الحزبية التي تنشأ بشكل طبيعي من التكتل، ويحصر نشاطها في إطار جمهور عضوي مغلق.
يقوم الشكل التنظيمي الحالي لأنصار الله على ثلاث هيئات تنفيذية ترتبط مباشرة بالقيادة العليا لأنصار الله وهي:
المجلس السياسي: هو الهيئة التنفيذية المعنية بإدارة وتنظيم العلاقات مع المكونات والتنظيمات والأحزاب السياسية والهيئات الدبلوماسية والمنظمات الإقليمية وإعداد مقترحات الخطط وتقديم التقارير والدراسات والتحليلات السياسية.
المجلس التنفيذي: ويضم الدوائر ذات الطابع الشعبوي المتعلق بالقطاعات الجماهيرية؛ كالدائرة الثقافية والتربوية والدائرة الاجتماعية والهيئة الإعلامية وهيئة المرأة وشؤون المحافظات ...إلخ.
هيئة العمل الحكومي: وهي الهيئة المعنية بالإشراف على كتلة أنصار الله في الهيئات التنفيذية والتشريعية.
ظاهرة أنصار الله كظاهرة ثقافية خطاب إسلامي تجديدي؛ إلا أنها كظاهرة اجتماعية لم تنشأ من فراغ والإحاطة بها في كثير من نواحيها تتوقف على درس سيسيولوجيا الكيان الزيدي في ضوء علاقته بالتحولات البنيوية للمجتمع اليمني والسياقات المرافقة لنشأتها، والمصاحبة لمسار تحولاتها المحلية والدولية والإقليمية في سياق التطور التاريخي الاجتماعي والسياسي بما فيه من صراعات وتحديات تعكس نفسها في خطاب جماعة أنصار الله، وفي أدائها، وتفسيرها للنص الديني.
مر بنا أن الخطاب الحوثي تبلور على إيقاع السجال البيني العقيم للإحيائية الزيدية، أدت إلى تعثر أبرز مشاريع الإحيائية الزيدية الدينية وعلى حال الأمة العربية ككل، خصوصاً في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، والأسئلة التي أثارها الحدث / الزلزال (أحداث سبتمبر) بخصوص مستقبل المنطقة العربية. واستعادة المسلمين لوحدتهم وهويتهم ومركزهم الحضاري. ومن هنا من الأهمية بمكان مناقشة دور هذه السياقات في الخطاب وفي الحركة وحدود هذا الدور.
من التفسيرات المنتشرة على نحو واسع تلك التي تنظر لتكون جماعة أنصار الله رد فعل جماعي على مشاعر الحرمان أو الحرمان الاقتصادي والاجتماعي، والمظالم المرتبطة بالهوية الثقافية، وإقصاء الرأسمال الثقافي والاجتماعي الزيدي من المساهمة في رسم وتشكيل مستقبل اليمن الجمهوري عقبت ثورة سبتمبر 1962م، والمظالم التي خلفتها الحروب الست، وتعريف أنصار الله على أنهم شكل من أشكال التضامن الطبقي أو تمثل لوعي فئوي أو طائفي.
أي إنها لا تملك مشروعاً بقدر ما تشكل استجابة لا واعية ونزعة احتجاجية رفضية على ممارسات الإقصاء والتهميش والبؤس الاجتماعي، وعرض لأزمة مشروع بناء الدول اليمنية الحديثة، وسلبية الوضعية السياسية والاقتصادية.
هذه التفسيرات تقودنا مباشرة إلى (منطق الأزمة)، كما كان سائداً في التراث السوسيولوجي التقليدي في تفسير عوامل وأسباب نشأة التعبيرات الإسلامية عموماً بالاعتماد على (منطق الأزمة)، وربط كل أشكال التعبيرات الدينية بأزمنة التراجع والتقهقر وخيبة الأمل، وكرد فعل سلبي للوعي الجمعي التعيس، ومحصلة لأزمة الدولة وأنظمته التوتاليتارية، وإفقار الطبقة الوسطى والبطالة، والكتل الشعبية المدنية جديدة العهد في التمدن والشعور الأيديولوجي على إثر تأزم الإيديولوجيات التقدمية، وإفساحها المجال للإيديولوجيات الاحتجاجية رفضية في مجتمع متشرذم مِللياً وعرقياً وذات جذور اقتصادية واجتماعية في التأويل الماركسي.
المقاربات اليسارية والليبرالية التقليدية على الخلاف بينها لا تخرج عن كونها تنويعاً على منطق الأزمة التي تخلقت من رحمها ظاهرة الإحيائيات الدينية، كنشاز معرفي ووجودي طارئ ومؤقتة لظرف أو واقع شاذ، وتستبطن فكرة مسبقة ترى أن العلمنة وأفول المقدس هو التطور الطبيعي للمجتمع الحديث.
إلا أن الطفرة الدينية التي شهدها العالم والمنطقة العربية والإسلامية نهاية القرن العشرين جاءت على غير رغبة أطروحات أفول المقدس وانحسار الدين، وفي الاتجاه المضاد لاختزال الشعور الديني في وسائل الإنتاج أو تعاسة الوعي، كما كشفت عن قصور نماذجها الإرشادية (البراديغم) عن مواكبة دينامية الظاهرة الإسلامية، وتزايد الطلب الاجتماعي عليها، وظهرت اتجاهات حديثة حاولت أن تتجاوز التصنيفات النمطية والمقولات الجاهزة للتراث السوسيولوجي.
والفرضية النظرية التي تقوم عليها هذه الدراسة أن دوافع وجودها تنبثق من المقولات المفاهيمية للنظام العقدي الإسلامي بينما نوع التحرك وشكله يتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة.
التحولات العالمية التي أفرزتها الحداثة الغربية في كل المجالات، ومنها إعادة صوغ العلاقة بين الديني والسياسي والعلاقات داخل النسق السياسي جملة، إضافة لفترات الجمود الفكري والسياسي الطويلة خاصة في النصف الأول من القرن الماضي، أوقعت نظرية الإمامة السياسة في مأزق حاد جعلها متخلفة عن استيعاب هذه التحولات، ولم تظهر محاولات تجديدية؛ لتحديث نظرية الإمامة تمكنها من الاستجابة للتعقيدات التي ونظراً للعلاقة البنيوية بين الإمامة السياسية والزيدية؛ فإن سقوط الإمامة السياسية في 26 سبتمبر 1962م أحدث خللاً بنيوياً على النسق الزيدي الفكري والاجتماعي، فالثورة كتغيير فجائي من طبيعتها أن تحدث تحولات بوتيرة أسرع من قدرة الأنساق الاجتماعية المتضررة على استعادة توازنها، وتحتاج لفترة وتحقيق التكامل بين الأنساق الفرعية المتضررة والنسق العام لاستعادة الاستقرار وإنهاء التوتر والصراع بين الأنساق الصغرى والنسق العام.
المشكل مع الزيدية هو استمرار اختلال التوازن، وعدم القدرة على التكامل مع النظام الجديد، وذلك نتيجة لفشل النظام في بناء مؤسسات، وأطر سياسية وإدارية تشاركية تستوعب القوى المتضررة، وإدارة عملية التغيير بدرجة من المرونة تسمح لها تطوير استراتيجيات، وادخال تحديثات تساعدها على التكيف نظام الثورة.
أعيق الفعل الثوري عن التطور بمكانزماته الذاتية لإعادة بناء الحياة السياسية، وصوغ علاقات مجتمعية جديدة، فالشرائح الإقطاعية أو شبه الإقطاعية التي احتلت مواقع قيادية عليا في الجهاز الحكومي والإداري وقفت بحزم ضد أي محاولة لكسر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية([54]).
"انتهت الثورة إلى أن تصبح نوعاً من انقلاب القبيلي على الهاشمي، نوع من انقلاب المنطقة على المذهب، خصوصاً بعد تصفية كافة الحركات والتيارات الوطنية في منعطفات كثيرة، منها منعطف أغسطس 1968م، وما بعده، وما قبله، ونتيجة لتلك المنعطفات؛ تم تغييب كل القوى والتيارات التي تمثل مختلف مشارب اليمنيين ومناطقهم أيضاً، لتتحول أو ليكرس الوضع القائم للجمهورية العربية اليمنية فيما بعد كوضع تحكمه المنطقة أو القبيلة التي كانت في يوم من الأيام دعامة لحكم الزيدية الدينية المستمرة منذ ألف عام، منذ مجيء الإمام الهادي إلى اليمن في القرن الرابع الهجري ظلت الزيدية الدينية تحكم وعمادها الرئيس في الحكم هو القبيلة... القبيلة المحاربة، ما حدث عام 1962م، وما بعده هو أن القبيلة المحاربة استطاعت أن تنقلب على النظرية الزيدية، واستطاع الشيخ أن ينقلب على الإمام، فتحول الوضع إلى أن القبيلة أصبحت هي الحاكمة، والزيدية الدينية وجدت نفسها مقصية وخارج الحركة التاريخية للمجتمع، واستمر هذا الوضع طوال أربعين عاماً... الزيدية بمشايخها وعلمائها وأفكارها انسحبت إلى الظل منذ الستينيات وصولاً إلى عام 1990م لحظة تحقيق الوحدة وإطلاق الحريات السياسية والفكرية والحزبية([55]).
لم يكن هذا الشكل من العلاقة بين الزيدية والثورة هو الشكل الوحيد الممكن أو حتى الطبيعي، وسقوط الإمامة السياسية لم تكن تعنى بالضرورة وضع مستقبل الزيدية كمنظومة فكرية ونسق اجتماعي في دائرة الاتهام أو السعي لتغيير الهوية الثقافة، بل إن ثورة 1948م التي مهدت لثورة سبتمبر ما هي - كما وصفها البعض - إلا انقلاب سياسي داخل البيت الزيدي؛ لكن الذي حدث - كما يحدثنا د/ المقالح أنه في أواخر الخمسينيات حين اشتد الصراع بين المعارضة الوطنية ونظام الإمام أحمد وصل الأمر ببعض المعارضين إلى هجاء الفكر الزيدي واتهامه بالتعصب والجمود، ويضيف أن الكراهية للنظام الملكي يومئذٍ ساعدت على تعزيز الاعتقاد بأن الزيدية ماهي إلا مذهب الأئمة الحاكمين([56]).
بسبب تسييس التنوع الاجتماعي؛ إما بتوطين هويات أخرى أو بتدخلها في تحديد الوضع الوظيفي السياسي والاقتصادي للفرد والجماعات كما حصل في اليمن أنتج ما يمسى بالدولة "الزبونية" العلاقة فيها بين المواطنين والدولة ليست مباشرة، بل بتوسط الجماعة الدينية أو القبلية أو الحزبية، والجماعات الضعيفة عندما لا تجد بدائل معرفية لتحسن وضعها، فإن أعضائها قد يقررون استراتيجيات فردية لتحسين أوضاعهم([57]). بالنسبة للزيدية؛ فإنها بإزاء هذا الوضع اتخذت استراتيجيتين دفاعيتين؛ الأولى: الفردية بالترحال المذهبي لكثير من أعضائها بهدف تحسين أوضاعهم وتحقيق التكامل مع النظام بعد أن صارت هذه الانتماءات التحتية عاملاً مؤثراً في تحديد الوضع السياسي والاقتصادي للأفراد، والثانية: الاستراتيجيات الجماعية ككيان وقيادة دينية فقد أخذت شكلين الأول: التكيف السلبي بالانكفاء على الذات والانسحاب الى الظل وكان هذا الاتجاه هو الغالب على علماء صعدة بقيادة العلامة/ مجد الدين المؤيدي والعلامة/ بدرالدين الحوثي في هذه المرحلة، والثاني: الانفتاح الحذر من الطرفين في نطاق محدود ويغلب هذا على علماء صنعاء ومن صعدة العلامة علي العجري والعلامة عبدالله الصعدي والعلامة عبدالرحمن المرتضي الملقب بـ (الناضرة).
ظلت الزيدية الدينية ما قبل العام 1990م تمارس أنشطتها بشكل سري وبشكل هامشي جداً، ومضيق عليه إلى حد كبير، وإلى عام 1990 كانت المنطقة المعروفة تاريخياً بأنها منطقة المذهب الزيدي أو أنها المنطقة الزيدية الممتدة من صعدة وصولاً إلى ذمار كانت فارغة تماماً من أي حراك ديني زيدي، باستثناء بعض الأعمال التقليدية المحدودة مثل الفتيا والتدريس.
مع الإعلان عن قيام الوحدة اليمنية في مايو1990م، والمناخ السياسي الجديد الذي أقر التعددية السياسية وهامش الحريات الإعلامية والفكرية الذي أتاحه؛ قرر السيد حسين مع عدد من الناشطين السياسيين والشخصيات الزيدية الاستفادة من المناخ الجديد في إعادة تنظيم أنفسهم سياسياً وثقافياً وفكرياً، والمشاركة الإيجابية والفاعلة في الحياة السياسية.
بدأت فكرة إحياء الزيدية، بواسطة الشباب المؤمن، في كل من صنعاء وصعدة، ثم بدأت الفكرة تنتشر في إطار هذه الحركة، وكانت المراكز الصيفية واحدة من الوسائل التي اعتمدتها الحركة لنشر فكرة إحياء الزيدية.
يروي محمد بدر الدين الحوثي بداية فكرة منتدى للشباب المؤمن قائلاً: أنه مع ثلاثة من زملائه في عام 1991م؛ قرروا تنظم دورة دراسية في العطلة الصيفية من كل عام، وتستمر شهرين، ويعد لها منهج خاص من الكتب المختصرة؛ لتتلاءم مع زمن الدورة، وهكذا رسمنا البرنامج اليومي وحددنا البرامج والأنشطة، وكلها كانت بدائية نظراً لمحدودية الخبرة وكونها البداية، وأطلقنا على هذه الشقة التي استأجرناها اسم (منتدى الشباب المؤمن)([58]).
انبرى مجموعة من الشباب لقيادة حركة الإحياء الزيدي([59]) الذين تلقوا تعليمهم الشرعي على يد السيد العلامة/ بدر الدين الحوثي، والقاضي العلامة/ صلاح فليتة وبرعايتهما، وهما العالمان اللذان تميزا بنزعتهما العملية والحركية خلافاً لبقية علماء الزيدية التقليدين.. على أن إسهام هذين العالمين الكبيرين ظل محصوراً في إطار فهمها التقليدي المتوارث فيما يتعلق بالنظرية السياسية للمذهب الزيدي.
ولا شك أن إحياء الزيدية وفق الآلية التي اعتمدها هؤلاء الشباب، وهم يؤسسون إطارها الذي أطلقوا عليه اسم (منتدى الشباب المؤمن) قد مثل مزيجاً من التراث الزيدي التقليدي فقهياً وفكرياً، والثورة الإسلامية في إيران ثورياً وسياسياً، وحركة الإخوان المسلمين حركياً وتنظيمياً، مع نزوع أظهره هؤلاء الشباب نحو الانفتاح على الآخر، والسعي لإحداث التجديد داخل المذهب الزيدي انطلاقاً من قواعده الثابتة والراسخة التي عُطلت أو جُمدت، والتي يأتي في مقدمتها الاجتهاد والتجديد([60]).
لم يكن حسين الحوثي ضمن الهيئة الإدارية للمنتدى حيث برز دوره في حزب الحق كأحد المؤسسين برئاسة العلامة مجد الدين المؤيدي، ونائبه العلامة بدر الدين الحوثي، والعلامة أحمد الشامي أميناً عاماً للحزب، وفي انتخابات 1993م البرلمانية رشحه الحزب لخوض الانتخابات، وكان مع الشيخ عبد الله الرزامي المرشحين الوحيدين الذين تمكنا من الوصول للبرلمان من بين كل قائمة مرشحي حزب الحق.
عُلقت الكثير من الآمال على هذه المناشط؛ لإعادة دمج المكون الزيدي في الحياة السياسية والمجال العام، وتجاوز حالة العزلة والانكفاء على الذات، بيد أن هذا الزخم الذي بشّر به حزب الحق على المستوى السياسي و منتدى الشباب المؤمن، والمناشط الإحيائية (الزيدية) الأخرى؛ تعرّض للتراجع؛ إذ تعرض الحزب لتصدعات داخلية، واستقالات جماعية إن على المستوى القيادة أو الجمهور، وفي انتخابات 1997م فشل في إيصال أي من مرشحيه إلى قبة البرلمان([61])، ودخلت قيادة الإحيائية الزيدية والشباب المؤمن في صراعات وسجالات كلامية بينية عدمية.
لم يصادف نشوء حزب الحق ولا حركة الإحياء الزيدي بيئة مساعدة على النجاح لأسباب وعوامل داخلية: تمثلت في الافتقار إلى الإمكانيات المادية والاقتصادية اللازمة لمثل هذه المشاريع، إضافة إلى افتقاد القيادة التنفيذية في الحزب لقواعد الممارسة السياسية وقصور التنظيم، وكذلك الحال بالنسبة للمراكز الصيفية.
وعوامل أخرى خارجية تتعلق بالبيئة السياسية عقيب قيام الوحدة اليمنية 1990م، وحالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي التي شهدتها المرحلة الانتقالية بين الائتلاف الثلاثي الحاكم، حيث كانت المخاوف من تكوين قوة سياسية فاعلة ومؤثرة تمتد إلى معظم الجغرافيا الزيدية التاريخية؛ إضافة إلى إمكانية تحالفها مع الحزب الاشتراكي اليمني يدفع بالتحالف الثنائي لحزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح([62])، لانتهاز كل السبل من أجل إجهاض هذه التجارب الوليدة في مهدها([63]). ولم يسمح بوجود مناخ ديمقراطي يعطى للأحزاب والتجارب السياسية حديثة العهد فرصة للنجاح، تلا ذلك تراجع حاد في أداء العملية الديمقراطية والانتخابية أقفل المنفذ الوحيد للتشارك أمام الزيدية السياسية، و نجاح حسين الحوثي في انتخابات 1993م لم يكن نتيجة لنزاهة الانتخابات وإنما للكاريزما الشخصية التي يتمتع بها والمكانة الاجتماعية لوالده العلامة بدرالدين في خولان عامر بفعل مكوثه الطويل فيها، تمكن الحوثي من ترميم الشروخ العميقة بين العلماء وبين الجمهور العادي واستطاع بجهوده الذاتية تطبيع العلاقات مع هذا الجمهور وتغيير الصورة النمطية لهذه الفئات وقد أثار هذا النشاط القوى السياسية الأخرى التي اعتبرت صعود الحوثي مؤشراً لعودة الحياة للزيدية الدينية.
بعد انتخابات 1997م ارتحل حسين الحوثي إلى السودان، هذه الرحلة - التي اعتقدها مهمة – كانت منعطفاً نوعياً في مسار حياة الرجل الفكرية والسياسية، وأتاحت له إضافة لتخصصه في الإسلاميات)[64]) لحظات تأمل مركزة في القرآن الكريم، ونظراً لشخصية الرجل الحركية المهجوسة - كما يصفه مجايلوه - بهمّ الإصلاح والتغيير، فقد استغلها لإعادة تقييم ومراجعة تجاربه السابقة، والنتيجة التي وصل إليها أن القرآن أغنى من أن يكون موضوعاً لرسالة أكاديمية؛ وإنما رسالة للحياة، ليقرر بعدها العودة إلى اليمن والاستقرار بمنطقة مران حيث مقر إقامته، ومن ثم الإعلان عن مشروعه الجديد.
النتيجة التي نخلص إليها أن العوامل الموضوعية العوامل المتعلقة بالشروط الاقتصادية والاجتماعية والمظالم المرتبطة بالهوية لدي الكيان الزيدي لا تفسر نشأة الخطاب الحوثي وجماعة أنصار الله، ودورها يتلخص في كونها مثلت ما يمكن تسميته (عوامل تسهيل) سرعت في تمدد أنصار الله، وفي توسع حاضنتهم الاجتماعية وازدياد الطلب الاجتماعي عليهم داخل المكون الزيدي، كما ساهمت في تحفيز وتغذية الصراع وأخذه مديات ربما لم يكن له أن تنتهي إليها المدى الذي انتهت إليه لولا السياق النفسي والاجتماعي التاريخي الذي رافق لحظة توتر العلاقة بين النظام السابق والحوثي، وصادف بيئة مهيأة للانفجار، ولا تحتمل المزيد من التصعيد، وتنتظر الفتيل الذي يشعل النار في البارود، فهي لم تكن بمعزل عن الوجود الاجتماعي الذي يتحدد بمنظومة متكاملة ومتجادلة من المحددات السياسية والاقتصادية والفكرية والسيكولوجية
مر بنا أن أهم عاملين أثرا على الحوثي هما حالة الخلاف والجدل البيزنطي الذي انتهت إليه الاحيائية الزيدية في العشرية التاسعة من القرن المنصرم والعامل الآخر حالة الانقسام والهوان والضعف الإسلامي والعربي أمام الغطرسة الأمريكية عقيب أحداث سبتمبر، والقاسم المشترك بين الحالتين أنها وضعته أمام سؤال أرقه كثيراً لماذا كل هذا الانقسام؟ كيف نفسر حالة التخلف والخلاف التي يغرق فيها العرب والمسلمين إلى الأذقان؟ إذا كان العقل والاجتهاد أهم أدوات الإصلاح عند رواد الإصلاحية الإسلامية لماذا لم تساعد الزيدية التي يتأسس منهجها على العقل والاجتهاد على تقديم نموذج جاذب ينتشلها من حالة الجمود والسجال العدمي؟ وهل من سبيل لإنهاء هذه الأزمات الممنذة والمستديمة؟
انتهى الحوثي إلى أن جذر الأزمة واحد في الحالتين "أليست الأمة متفرقة ومختلفة؟ حتى الزيدية أنفسهم في داخلهم متفرقين ومختلفين، فأين نحن نسير، وكيف نحن؟. يعني كمثل من نحن؟. ألسنا كمثل أولئك الذي تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات؟"([65]) فأزمة المذاهب لها علاقة بأزمة الأمة، وأزمة الأخيرة لا تنفصل عن أزمة الطوائف والمذاهب والتي تتلخص في أزمة المنهج، سواءً كنظام معرفي أو كأسلوب في التعليم والتثقيف والدعوة، وقد شكلت هذه القضية إضافة إلى طبيعة الصراع العالمي مدخلاً للتحول عند الحوثي من همّ الجماعة أو المذهب إلى همّ الأمة؛ ولذلك يقول إن المسلمين "في المرحلة هذه أحوج ما يكونون إلى أن يحملوا هذا العنوان (مسلمين) وحده فعلاً في المرحلة هذه بالذات في موضوع صراع عالمي، أليس هناك صراع عالمي الآن؟؛ لأن هذا هو العنوان الهام الذي يجعل هذا الدين مقبولاً عند الآخرين عند البشر جميعاً، لا يؤطر بأطر قومية، بأطر عرقية معينة بأطر إقليمية نهائياً؛ لأن كلمة إسلام كلمة عامة".([66])
وعليه من المتوقع أن يقفز إلى ذهن القارئ استفهام مشروع عن علاقة أنصار الله بالزيدية؟
تمثل الزيدية الخلفية الثقافية التي قدم منها الحوثي وأثرت في تكوينه العلمي والثقافي كما كان لها تأثيرها في بناء بعض مقولات مشروعه الجديد الذي يمثل في ذات الوقت تجاوزاً للمذهب في المنهج والرؤية، أما الزيدية كمكون اجتماعي فإنها تمثل بلغة ابن خلدون عصبية الدعوة أو المشروع التي يؤمل الحوثي أن تكون في طليعة الحاملين لهذا المشروع يقول "الزيدية يجب أن يكونوا أكثر المسلمين اهتماماً، وأن يكونوا أول المسلمين انطلاقة في مواجهة أعداء الله"([67]).
ورث أنصار الله عن الزيدية بعض الممارسات والطقوس الدينية ونزعة التشيع؛ لكن في الآن نفسه فإنها لا تمثل هوية المشروع ولا تستهدف بخطابها جماعة مذهبية مغلقة ولا تمثل تجمعاً يعبر عن مطالب حقوقية أو مظالم مرتبطة بالهوية الزيدية.
كأي حالة إحياء واستنهاض تحويلية تاريخية؛ فإنها تكون صادمة لبيئتها وموروثها الذي تريد الخروج منه، وتجاوزه إلى آفاق أجد وآماد أوسع.. فقد قرأ حسين الحوثي واقعه الزيدي: فكرياً وسياسياً واجتماعياً، بطريقته الخاصة، ووصل إلى خلاصات واستنتاجات مغايرة جعلته كمن يغرد خارج سربه. ولاقت مواقفه وأطروحاته اعتراضات واسعة من مرجعيات زيدية تقليدية معتبرة([68]).
عمد الحوثي للقاء الأمانة العامة للشباب المؤمن، وفاتحهم بما هو معتزم عليه، أسفرت اللقاءات عن انقسام الهيئة العامة بين مؤيد ومعارض أدى في النهاية إلى تجميد نشاط المنتدى.
ذلك لا يعني أن جماعة أنصار الله نشأت كانشقاق حركي أو امتداد لمنتدى الشباب المؤمن كما يخلط بعض من الباحثين، فسياق ولادة تيار أنصار الله الثقافي والسياسي المحلي والإقليمي يختلف عن سياق ولادة ونشأة حركة الشباب المؤمن.
ورثت جماعة أنصار الله من الشباب المؤمن جمهوره ومعظم رموزه الدينية السياسية وشخصياته الحركية، ومنهم تشكلت النواة الجنينية بعد أن أعاد السيد حسين بناءهم فكرياً وحركياً، وتوجيههم نحو أهداف مختلفة عن أهداف الصحوات الزيدية ومنتديات الشباب المؤمن، ومتمايزة في التنظيم وآليات واستراتيجيات العمل، متخطياً الجمهور التقليدي للإحيائية الزيدية.
تزامن انولاد الخطاب الحوثي مع أحداث 11سبتمبر، والحرب الكونية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على ما سمي حينه بالإرهاب العالمي، وهي الحملة التي فرضت نفسها أو انعكست أصداؤها على العالم والمنطقة العربية، ومنها اليمن التي كانت من بين أهم دولتين عربيتين متهمتين باحتضان عناصر الإرهاب.
استغلت الولايات المتحدة أحداث سبتمبر2001م، والتعاطف العالمي؛ لانتزاع تفويض المجتمع الدولي لها بالحرب على الإرهاب وابتزاز الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية بالذات، وإرغامها على التكيف والتماهي مع مبدأ: "من ليس معنا؛ فهو ضدنا" الذي تبنته إدارة بوش الابن في حربها العالمية على الإرهاب، وكان جموح الحملة الأمريكية يدفع بالأنظمة الحاكمة في المنطقة للمبالغة في إخماد أي صوت مناهض للإرادة الأمريكية.
لهذا فإن أحداث 11سبتمبر، وتداعياتها فرضت نفسها بقوة على مجمل الخطاب الحوثي، ومن ضمن الهموم المركزية فيه ممانعة ورفض الهيمنة والوصاية الأمريكية؛ لإعادة رسم خارطة المنطقة العربية والإسلامية بعد أن أخذت الحرب على الإرهاب بعداً حضارياً؛ لفرض المنظومة الحضارية للعولمة واستهداف الحضارة الإسلامية باعتبارها من أشد الحضارات ممانعة للتكيف مع قيم العولمة الليبرالية بحسب الوصايا الهنتنجتونية.
في سياق الحرب الكونية التي قادتها الولايات المتحدة أطلق الحوثي حملة توعية جماهيرية مكثفة ومركزة مصحوبة بهتافات وشعارات مناهضة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية واليمن (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام)، لذا كان يُطلَق على مؤيديها وصف (جماعة الشعار) نسبة إلى تبنيهم (الشعار) أداة ووسيلة رئيسة لنشر أفكارهم وآرائهم الفكرية والدينية.
أثارت الصرخة جدلاً وسجالاً واسعاً، وفسّرت باعتبارها إحدى دلائل الارتباط بإيران، وهو من نمط التفسيرات النمطية الجاهزة للإسقاط السريع بشكل آلي على أساس التشابه الشكلي. مثل هذه التفسيرات لا تستطيع أن تجيب على كثير من الأسئلة المرتبطة بالموضوع على سبيل المثال: لماذا في سنة 2002م دون غيرها من التواريخ اختار أنصار الله لأول مرة ترديد هذه الهتافات؟ لماذا لم تكن التسعينات لا سيما وتهمة الارتباط بإيران تعود للعشرية الثامنة من القرن الماضي؟ إذا كانت إيران هي من وجهت الحوثي؛ فلماذا لم توجه قبل هذا التاريخ؟([69]).
إن فهم خلفية ودوافع الحوثي الحقيقة لا يتم إلا من خلال مقاربتها في سياقها العام باعتبار أن نوع التحرك وشكله يتحدد بالسياق السياسي والثقافي والاقتصادي كما سبق.
في سنة 2002م تحدّث الحوثي في محاضرة عن (خطر دخول أمريكا اليمن) بعد تفجير المدمرة (كول) حينها كانت تقارير كثيرة خرجت - بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما تلاها من غزو للعراق، تتوقع أن اليمن في مرمى الاستهداف الأمريكي ودار حديث أنها الهدف الثاني التالي للعراق على قائمة الأهداف الأمريكية.
عن هذا التوقع يقول الحوثي: "الشيء المتوقع - والله أعلم -، والذي قد لمسنا شواهد كثيرة له، وبدأت المقابلة الصحفية التي سمعناها قبل يومين تقريباً مقابلة صحفية مع الرئيس، أسئلة حول السفينة (كول)، وحول من كانوا يذهبون إلى أفغانستان، يريدون أن يحملوه المسؤولية هو السؤال الذي يوحي بأنهم يريدون أن يحملوه المسؤولية هو حول المجاهدين الذين ساروا إلى أفغانستان من الشباب اليمنيين فبدأ يتنصل ويقول: هم كانوا يسافرون بطريقة غير شرعية، ولا نعرف عنهم شيئاً"([70]).
وفي هذا السياق دعا الحوثي الشعب اليمني لتحمل مسؤوليته، ورفض القبول بأي شكل من أشكال الوجود الامريكي: "إذاً: نقول جميعاً كيمنيين لكل أولئك الذين يظنون أنه لا خطر مُحدق، الذين لا يفهمون الأشياء، لا يفهمون الخطر إلا بعد أن يَدْهمهم، نقول للجميع سواء أكانوا كباراً أم صغاراً: الآن ماذا ستعملون؟ الآن يجب أن تعملوا كل شيء، العلماء أنفسهم يجب أن يتحركوا، والمواطنون كلهم يجب أن يتحركوا، وأن يرفعوا جميعاً صوتهم بالصرخة ضد أمريكا وضد إسرائيل، وأن يعلنوا عن سخطهم لتواجد الأمريكيين في اليمن، الدولة نفسها، الرئيس نفسه يجب أن يحذر، ما يجرى على عرفات، ما جرى على صدام، ما جرى على آخرين يحتمل أن يجري عليه هو، إن الخطر عليهم هو من أولئك، الخطر عليهم هو من الأمريكيين، الخطر عليهم هو من اليهود، على الحكومات وعلى الشعوب، على الزعماء"([71]).
ويضيف: "الشعار يمثل حرباً نفسية مضادة للحرب النفسية التي يشنونها على الشعوب العربية لهزيمتهم وإرهابهم من خلال شن حرب عسكرية على العراق، وعندما تستمر الجماهير في ترديد الشعارات المناهضة لهم عندما يسجن ويضرب ولا يحدث تراجع، فإنها في حد ذاتها حرب نفسية كبيرة في مواجهتهم ...، إبطال لحرب نفسية من عندهم"([72]).
الحوثي لا يطرح الشعار حلاً سحرياً لحل مشاكل العرب والمسلمين مع الولايات المتحدة؛ إنما سلاحاً مرحلياً تقتضيه طبيعة هذه المعركة مع أمريكا، والإمكانات المتاحة يقول الحوثي: "عندما يقول البعض ما قيمة مثل هذا الشعار؟. نقول له: هذا الشعار لا بد منه في تحقيق النصر في هذه المعركة على الأقل، لا بد منه في تحقيق النصر في هذه المعركة معركة أن يسبقنا الأمريكيون إلى أفكارنا وإلى أفكار أبناء هذا الشعب، وإلى أفكار أبناء المسلمين وبين أن نسبقهم نحن. أن نرسخ في أذهان المسلمين: أن أمريكا هي الإرهاب، أن أمريكا هي الشر".([73])
الموت هنا معناه الموت المدني والأخلاقي لا الموت البيولوجي الذي يعني تعطل الوظائف العضوية للجسد، والرسالة التي أراد الحوثي إيصالها من خلال ذلك الشعار: هي الإدانة الأخلاقية والسياسية والقانونية لمساعي فرض الوصاية الأمريكية، وتطويع الوعي العام اليمني والإسلامي عموماً للقبول بها، وتحصين لوعي المجتمع من الاختراق وتطويعه لصالح المخططات والمشاريع التوسعية لإدارة المحافظين الجدد، وخلق رأي عام محلي ممانع لمشروعها.
• أهم قضيتين مركزيتين في مشروع الحوثي هما:
1. التأسيس لنظام معرفي على أساس سنن الله في الهداية، كما تضمنها الخطاب القرآني تعالج أزمتنا المنهجية الفكرية والثقافية والتشريعية والسياسية، وتضع حداً لفوضى الاجتهادات الفردية والتضخم في الحديث والرأي؛ وذلك بإعادة الاعتبار للقرآن سلطة مرجعية عليا، سواء للمنهج والرؤية بما يعني ذلك من نفي لكل المرجعيات الثانوية الأخرى ومنع استمداد المنهج من مصادر خارجية، إعادة تصحيح النظرة والعلاقة مع القرآن؛ من حيث طبيعته أو هويته الأصلية ووظائفه ومصدره ومجالاته وأهدافه والمخاطبين به، ليس على أساس كونه الكتاب المنزل على قلب نبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم للإعجاز بسورة منه وفقاً لعلماء أصول الفقه؛ بل باعتباره خطاب الله لهداية الأمة للقيام بمهام الاستخلافية الفردية والجماعية، وما ينتجه الوعي بها من رؤية كلية وضوابط منهجية تؤكد على الطبيعة الخطابية للقرآن، وتنفي عنه الغموض والتعقيد، وتعدد الاحتمالات، وتفسح دوراً لتطور حركة الواقع في افصاح النص عن معناه، وتقلص دور القارئ (المفسر أو المجتهد أو الفقيه) في إنتاج المعنى إلى أضيق الحدود، إضافة لدور القيادة المسددة (أعلام الهدى) في الهداية بالقرآن، والترجمة الاجتماعية للخطاب القرآني والإيناس إلى الحق، والقدوة الحسنة التي تفتح السلوك الاجتماعي والأخلاقي والسياسي للمؤمن على أفق واسع من التسامي.
2. التأسيس لحراك شعبي احتجاجي ممانع للحرب الكونية الشاملة التي قادتها الولايات المتحدة عقب أحداث سبتمبر بحجة الإرهاب، واستغلالها لفرض العولمة، كمنظومة سياسية وثقافية واقتصادية تسعى لتعميمها وفرضها كنموذج وحيد يمثل نهاية التاريخ، وفي هذا السياق أطلق الحوثي حملة توعية جماهيرية مكثفة ومركزة مصحوبة بهتافات وشعارات مناهضة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية واليمن (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام)؛ لذا كان يُطلَق على مؤيديها وصف (جماعة الشعار) نسبة إلى تبنيهم (الشعار) أداة ووسيلة رئيسة لنشر أفكارهم وآرائهم الفكرية والدينية.
• أنصار الله جماعة (منظمة)، وليست (تنظيماً) بلوائح وأنظمة داخلية وبنيات هرمية بيروقراطية؛ بل نشاط جمعي وتيار شعبي، لا يرتبط ببرنامج سياسي أو بجماعة سياسية أو مذهبية أو فئوية مغلقة؛ بل بكل المؤمنين متجاوزاً حدود وهموم المذهب إلى هموم الأمة، ومع اتساع القاعدة الجماهيرية وتعاظم نفوذهم السياسي، كانت تحدّث بنيتها التنظيمية بما يتناسب وتطور الأحداث وضرورات المرحلة، واختيار شكل تنظيمي مرن يباعدها عن سلبيات التنظيم الحزبي وانعكاساته على العمل الثقافي والسياسي الشعبي.
• جماعة أنصار الله ليست تجمعاً طائفياً يعبر عن مطالب حقوقية أو مظالم مرتبطة بالهوية الزيدية، كما لا تستهدف بخطابها جماعة مذهبية مغلقة تمثل الزيدية - كمكون اجتماعي - عصبية الدعوة أو المشروع لا هويته وحدوده.
• العوامل المتعلقة بالشروط الاقتصادية والاجتماعية والمظالم المرتبطة بالهوية لدى الكيان الزيدي لا تفسر نشأة الخطاب الحوثي وجماعة أنصار الله، و دورها يتلخص في كونها مثلت ما يمكن تسميته (عوامل تسهيل) سرعت في تمدد أنصار الله، وفي توسع حاضنتهم الاجتماعية وازدياد الطلب الاجتماعي عليهم داخل المجموعة الزيدية.
[1] - الاسم الذي اصطفته الجماعة لنفسها.
[2] - الاسم الذي اشتهرت به الجماعة أثناء الحروب الست.
[3] - على سبيل المثال من التعريفات التي يوردها تقرير مجموعة الازمات الدولية منها "الحوثيون حركة مسلّحة ذات أساس عرقي [ھاشمي]، تسعى لإعادة إحياء الحكم الذي خسروه بعد ثورة سبتمبر 62. العنصر الجديد في الحركة هو الأجندة الإيرانية الخفية. يريدون استعادة حكم الهاشميين، لكن ليس من خلال المبادئ الزيدية. يقولون إنهم زيديون، لكن أجندتهم الخفية هي انقلاب اثنا عشري. ومنها ما نقلته على لسان عبدالكريم الإرياني: "الحوثيون لا يعدون اختراع أنفسهم، إنهم يعيشون إرث الماضي الموقع المتميز للهاشميين في ظل الإمامة، ويحاولون - فقط - التعايش مع الحاضر. سياستهم الحالية موجهة بدرجة كبيرة بالماضي، وغير متوافقة مع اليمن الحديث. انظر تقرير الشرق الأوسط رقم 154، الحوثيون من صعدة إلى صنعاء، 2014، ص11- 12.
[4] - برهان غليون، نقد السياسة الدولة والدين، 2011، ط5، المركز الثقافي العربي، المغرب 229-239، عبدالوهاب الأفندي، الحركة الاسلامية النشأة والمدلول والملابسات في الحركات الاسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، مجموعة مؤلفين، 2002، ط1، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الإمارات، أبوظبي، ص28-30.
[5] - عبد الغني عماد، "الحركة الإسلامية في الوطن العربي"، في: الحركة الإسلامية الإرهاصات والأزمنة التأسيسية: المرجعيات والمسارات الصعبة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ج1، ط1، ص25.
[6] - عمرو الشوبكي، مستقبل الحركات الإسلامية بعد أيلول سبتمبر، دمشق، دار الفكر، ط1، 2005م، ص 203- 227.
[7] - مسعود أسد اللهي، "الإسلاميون في مجتمع تعددي، حزب الله في لبنان نموذجاً"، ترجمة دلال عباس، بيروت، الدار العربية للعلوم، ومركز الاستشارات والبحوث، ط1، سنة 2005م، ص84.
[8] - ينظر: مقابلة الحوثي مع راديو (BBC) في كتاب أنصار الله المشروع والقيادة، يحيى قاسم أبو عواضة، صعدة، مؤسسة الشهيد زيد علي مصلح، ط1، 2014م، ص98.
[9] - صحيفة النهار اللبنانية، 12 نوفمبر 2009م.
[10] - ينظر: خطاب السيد عبد الملك الحوثي بمناسبة ذكرى الشهيد القائد 25 مايو 2014م، الذي تطرق فيه لتوصيف مشروع الحركة.
[11] - المحاضرات التي كان يلقيها على مريديه من (2000- 2004م)، وقد نُقلت معظمها من كاسيتات إلى نصوص بصرية، وصيغ رقمية.
[12] - ينظر: جدلية الديني والسياسي والخيارات المتاحة، للكاتب عبدالملك العجري، مجلة ثقافتنا، العدد الثاني، 2011.
[13] - ينظر: محاضرة الفيلسوف ارنست رينان التي ألقاها في السوربون: زعم فيها أن الإسلام أشد ما حملته الإنسانية على عاتقها من الأغلال، وأن ما يميز المسلم جوهرياً كونه يحمل حقداً دفينا ضد العلم، دار الأمير للثقافة والعلوم.
http://www.daralameer.com/newsdetails.php?id=175&cid=35#2
[14] - أخفق ممثلو الجيل الأول للخطاب الحداثي العلماني (شبلي شميل، فرح أنطون، قاسم أمين ...إلخ) في اختراق المجتمعات العربية، وبقي خطابها نخبوياً معزولاً عن الجمهور؛ مما دفع بالجيل الجديد من الحداثيين، كـ (الجابري، حنفي، سروش، أبو زيد) إلى المراجعة والإقرار بأن أي عملية تحديث في المجال الإسلامي لكي يتحقق لها أبسط شروط النجاح لابد أن تتكامل فيها مجموعة عناصر أهمها الدين وموقعه من المجتمع، كما لا ينادي هؤلاء بالقطيعة مع التراث، ويتعاطون مع النصوص الدينية والتراث في سعي لتقديم قراءات حداثية للدين، ويقدم بعضهم نفسه كمجدد ديني.
[15]- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، مصر، سينا للنشر ، 2014، ط2، ص131.
[16] هاجم الحوثي صرف علماء الكلام مفهوم التفكير الوارد في القرآن إلى الغيبيات ومباحث الإلهيات وتفسير "النظر" أنه هو الواجب في ميدان التشريع وتركوا ميدان الحياة الذي أنتج في الأخير ركاماً هائلاً من المعارف لا تقدم و لا تؤخر وصرنا منحطين في أسفل درك في عالم الصناعة، في عالم الاختراع، في عالم الإبداع، الى حد الجهل باستخدام الآليات التي ينتجها الآخرون ..بينما كما - يقول الحوثي - : "القرآن وهو يرشدنا في مجال معرفة الله سبحانه وتعالى يرشدنا إلى كيف نتفكر فيما سخر لنا. من خلال تفكرنا ودراستنا للأشياء وإبداعنا فيها واختراعنا وتصنيعنا.. القرآن الكريم عمل على أن يدفع بالمسلمين نحو أن يسبقوا الأمم الأخرى في مجال الإبداع والاختراع والتصنيع من منطلق عقائدي، ودافع عقائدي قبل دافع الحاجة التي انطلق على أساسها الغربيون،...انظر محاضرة معرفة الله نعم الله ,2002, ص12, 13
[17] - حسين الحوثي، سورة البقرة، الدرس الثامن، سنة 2003م، ص26.
[18] - حسين الحوثي، سورة البقرة، الدرس الثالث، سنة 2003م، ص1.
[19] - حسين الحوثي، سورة النساء، الدرس الثامن عشر، سنة 2003م، ص23.
[20] - حسين الحوثي، سورة الأنعام، الدرس الرابع والعشرون، سنة 2003م،ص3.
[21]- ما طرحه الحوثي في هذا المجال في كثير من جوانبه صادمٌ وخارجٌ عن المألوف سيما التراثي فهو يهز بجرأة نظاماً معرفياً استقر عند المسلمين منذ عصر التدوين ويدعو لإسقاطه واعادة مراجعته كشرط لتحقيق الخلاص الإسلامي، وبلا شك سيثير الكثير من الأسئلة وردود الفعل المتباينة، كما ستبقى جملة من الأسئلة معلقة بانتظار الإجابة. وبطبيعة الحال ليس من أهداف هذه الدراسة الحكم على الخطاب الحوثي سلباً أو ايجاباً بقدر ما نقصد إلى إبراز القضايا التي تعد في صميم الخطاب وقد لا يكون من السهل تقبل كل ما طرحه لكنه في الحد الأدنى يؤشكل الكثير من المسلمات ويضعها على طاولة المراجعة والنقد بشجاعة وجرأة.
[22] - حسين الحوثي، مديح القرآن، الدرس الثاني، 2003، ص10.
[23] - حسين الحوثي، كيف نهتدي بالقرآن، 2002، ص2.
[24] - يقول نصر حامد أبو زيد: بسبب هذا التحوّل الشكليّ من “قرآن” إلى “مصحف”، قام علم التفسير على محاولات تأكيد التناسق بين الأجزاء، بافتراضات لعلّ أهمها ثنائيتا: “المحكم والمتشابه”، و”الناسخ والمنسوخ”، وهي افتراضات عمَّقت الاختلاف ولم تحقّق هدف “الانسجام” بين الأجزاء ، /2011/08؛ متوفر على الرابط:
http://www.laghoo.com
[25] - حسين الحوثي، آيات من سورة آل عمران، الدرس الثاني، 2002، ص3.
[26] - حسين الحوثي، الإسلام وثقافة الاتباع، 2002، ص2.
[27] - حسين الحوثي، دروس رمضان، الدرس الثامن، 2003 ص3.
[28] - حسين الحوثي، سورة النساء، الدرس الثامن عشر ،2003، ص27.
[29] - حسين الحوثي، سورة البقرة، الدرس العاشر، 2003، ص2.
[30] - حسين الحوثي، مديح القرآن، الدرس السادس، 2003، ص10.
[31] - يعرّف علم أصول الفقه: بأنه العلم بأصول يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. ينظر: الكاشف لذوي العقول عن وجوه معاني الكافل بنيل السؤل، أحمد لقمان، مكتبة التراث الإسلامي، صعدة، ط2، 2000، ص25.
[32]- حسين الحوثي، الدرس التاسع، 2003، ص14.
[33] - حسين الحوثي، مسؤولية طلاب العلوم الدينية، 2002، ص3.
[34] - حسين الحوثي، سورة الأنعام، الدرس الرابع والعشرون،2003، ص25.
[35] - حسين الحوثي، سورة البقرة، الدرس التاسع،2003، ص13.
[36] - حسين الحوثي، سورة البقرة، الدرس الثالث،2003، ص26.
[37] - حسين الحوثي، مديح القرآن الصغير، الدرس السادس، 2003، ص23.
[38] - ينظر: كمثال على ارتباط التشريع بتطور المجتمع ما أورده السيد حسين في دروس رمضان سورة النساء، الدرس السابع عشر، 2003.
[39] - العلامة (مهدي شمس الدين) تطرق للفردية في الاجتهاد؛ لكن من ناحية المجال، حيث المجتهد في عملية الاستنباط يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم، ولا يتمثل صورة المجتمع، وبالتالي انكماش الفقه من الناحية الموضوعية على الجوانب المتصلة بالتطبيق الفردي، ويعيد هذا الخلل المنهجي إلى بداية عصر التدوين الفقهي مع الانفصال الكامل بين القيادة السياسية للمسلمين، وبين الجانب التشريعي للمسلمين في اختزال القرآن في آيات الأحكام المباشرة التي يتعاطونها، وهي ما يتصل بفقه الأفراد: عبادات الفرد، تجارة الفرد، الأسرة، وإغفال البعد التشريعي للمجتمع والأمة في المجال السياسي والتنظيمي وللعلاقات الداخلية في المجتمع، وعلاقات المجتمع مع المجتمعات الأخرى غير المسلمة. ينظر: الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية، ط1، سنة 1999م، ص74.
[40] - في "رسالة الصحابة" التي بعثها ابن المقفع(106-142هـ) للخليفة العباسي أبى جعفر المنصور , شخص فيها مشكلات عصره ومنها تناقض أحكام القضاة والولاة واقترح على أبي جعفر توحيد القوانين، وجمع الخليفة للفقهاء، لسن قوانين موحدة، يجب أن يسير عليه كل القضاة، و هي الفكرة نفسها التي دعا لها ابن رشد في الأندلس والمغرب ومما جاء في الرسالة "ومما ينظر فيه امير المؤمنين امر هذين المصرين(البصرة –الكوفة) وغيرهما من الامصار والنواحي اختلاف هذه الاحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيما في الدماء والفروج والاموال ,فيستحل الدم والفرج بالحيرة ,وهما يحرمان بالكوفة ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية ما يحرم في ناحية اخرى ,غير انه على كثرة الوانه نافذ المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاء جائز امرهم وحكمهم مع انه ليس مما ينظر في ذلك اهل العراق واهل الحجاز فريق الا قد لج بهم العجب بما في ايديهم والاستخفاف ممن سواهم فأقحمهم ذلك في الامور التي يغضب لها من سمعها من ذوي الالباب "انظر اثار ابن المقفع ,رسالة الصحابة عبدالله بن المقفع ,ط1, 1989م ,دار الكتب العلمية ,بيروت ص 316
[41] - حسين الحوثي، الدرس الرابع عشر، 2003، ص22.
[42] - حسين الحوثي، سورة الأعراف، الدرس الثامن والعشرون، 2003. ص2
[43] - مرجع سابق، ص2.
[44] - حسين الحوثي، سورة ال عمران، الدرس الرابع عشر، 2003، ص10.
[45] - حسين الحوثي، سورة آل عمران، الدرس الثالث عشر، 2003، ص14.
[46] - مرجع سابق.
[47] - الإمام علي قرين القرآن، يحيى قاسم أبو عواضة، ج2، ط1، مؤسسة الشهيد زيد علي مصلح، صعدة، ص10.
[48] - انظر "الاجتهاد والنص الديني: أزمة فهم أم أزمة علاقة؟"، وجية قانصو، مجلة المستقبل العربي، ع 456، 2017، ص66-69.
[49] - حسين الحوثي، معرفة الله، عظمة الله، الدرس السادس، 2002، ص5.
[50] - حسين الحوثي، سورة ال عمران، الدرس الأول، 2002، ص6.
[51] - الحركة الحوثية فاعل غير رسمي في اليمن، عبد الكريم الخيواني، 2011؛ متوفر على الرابط:
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2011/201172212536750791.html
[52] - ينظر: مديح القرآن، الدرس الثاني، 2002.
[53] - ومن العوامل - أيضاً - جاذبيهم كقوة معادية للنظام ومعارضة للقوى المتصارعة خلال فترة حكم صالح والحكومة الانتقالية التي لا تحظى بالشعبية أكسبهم دعما إضافياً حتى خارج المعاقل التقليدية للزيدية في الشمال مكنهم من الحصول على دعم كبير من أجزاء واسعة من الطيف السياسي والشعبي بسبب الاستياء الواسع من سياسات النظام آنئذٍ والنقمة التي ولدها تردى الأوضاع المعيشية للناس كما استفادوا من الإحباط واسع الانتشار والاستياء من فساد ومحسوبية وظلم النظام القديم. ينظر: الحوثيون من صعدة إلى صنعاء، تقرير مجموعة الأزمات الدولية، سنة 2014م، ص6.
[55] - محمد عايش، لحظة التطور الفاصلة من "الهادوية" إلى "الحوثية".. حرب صعدة وأثرها في تحولات الزيدية الدينية؛ متوفر على الربط:
http://ayeshpress.blogspot.com/2010/11/blog-post.html
[56] - عبد العزيز المقالح، قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة، دار العودة، بيروت، ط1، 1982، ص8.
[57] - عالم المعرفة، سيكولوجية العلاقات بين الجماعات – قضايا في الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات، العدد 326، أبريل/2006، ص26.
[58] - مقابلة محمد الحوثي مع الاشتراكي نت، 8/9/2007، متوفر على الرابط:
http://www.ye1.org/forum/threads/206646/
[59] - منهم محمد عزان ومحمد بدر الدين وصالح هبرة وعبد الرحيم الحمران وعبد الكريم جدبان وغيرهم.
[60] - زيد الذاري، ورقة عمل بعنوان "الحوثية وقضية صعدة، الجذور – المحتوى – المعالجات" في ندوة الحوار الوطني (أهميته، مرجعياته، ومحاوره،) ط1، 2013، مؤسسة اليمن للثقافة والتنمية السياسية وجامعة المستقبل، ص218.
[61] - السيد حسين - الذي ترشح مستقلاً هذه المرة بعد انسحابه من الحزب بسبب خلافه مع قياداته على أداء الحزب طريقة إدارته.
[62] - المحسوب على الإخوان المسلمين والقادم من رحم المؤتمر الشعبي - الذي تشكل عقيب الوحدة مباشرة وتعزز موقعه في الحرب الأهلية صيف 1994م.
[63] - ينقل زيد الذاري عن أحد قادة الإخوان المسلمين قولته المشهورة: "يجب أن تعدوا العدة لمواجهة هؤلاء، نحن ننحت في الصخر، أما هم فلا يحتاجون إلا إلى قطرات من المياه"، وكان يقصد أن القائمين على الحركة الزيدية ينشطون في بيئتهم الطبيعية حيث ينتشر ويترسخ المذهب الزيدي.
[64] إذ كان موضوع أطروحته للماجستير دراسة وتحقيق كتاب البرهان في تفسير القرآن لأبي الفتح الديلمي (الإمام الناصر أبي الفتح الديلمي ت444ه).
[65] - حسين الحوثي، سورة ال عمران، الدرس الثالث ،2003، ص11.
[66] - حسين الحوثي، سورة آل عمران، الدرس الثالث عشر، 2003، ص14.
[67] - حسين الحوثي، في ظلال دعاء مكارم الأخلاق، الدرس الثاني، 2002، ص11.
[68] - زيد الذاري، المصدر السابق، ص219.
[69] - في 17/1/2002م وفي قاعة مدرسة الإمام الهادي (ع) بمران هتف أنصار السيد /حسين الحوثي لأول مرة.
[70] - حسين الحوثي، خطر دخول أمريكا اليمن، 2002م، ص1.
[71] - مرجع سابق، ص3.
[72] - حسين الحوثي، الدرس الرابع عشر، 2003،
[73] - حسين الحوثي، الارهاب والسلام، 2002، ص9.