ثمة في المشهد السياسي العربي ما يشير إلى فاجعة حلت بهذه الأمة العربية، تتناسل حروباً وأزمات وكوارث مركبة تقود في المجمل السياسي إلى استقالة عربية عن القيام بالدور المفترض أن تقوم به هذه الأنظمة في خدمة شعوبها نهوضاً وتنمية وتطوراً لشعوبها، وخدمة لقضايا أمتها وفي الطليعة منها فلسطين.
أمة الـ (250) مليوناً وأكثر من السكان، وذات الموقع الجغرافي الحاسم في رسم خارطة التوازنات الدولية الحاضرة والمستقبلية، والأمة التي جعلها الله مؤتمنة على رسالة الإسلام المنقذ للبشرية، ذات الإرث الحضاري المتميز، والامكانات والقدرات المادية الكبيرة، تجد نفسها اليوم منساقة خلف تبعية ذليلة لأمريكا والغرب، يتجلى ذلك في كل شؤونها التي ترسم بعيداً وتدار بعيداً عن مصالحها ومصالح شعوبها المغلوبة على أمورها.
هو كذلك مشهد الأمة العربية حزين مؤسف إن لم نقل إنه مخيف وخطير، فبمؤشرات أرقام النمو البشرية والمادية والحضارية تتخلف الأمة وتتراجع على كل صعيد، ومع الأفول السريع لثورات الربيع العربي لأسباب لا يسمح هذا الحيز بالذهاب إليها، تسيّدت داعش بحروبها المدمرة للأوطان والشعوب والحضارات المشهد العربي، تنهش في الجسد العربي في اليمن وسورية والعراق وليبيا وغيرها قتلاً وخراباً، وتشريداً للبشر وخراباً للعمران واستدعاء لمقت الإسلام وتشويهه، وضرب قيمه الإنسانية العظيمة في صميمها. وعلى إيقاع حروب التفتيت والتمزيق للمنطقة العربية بعناوينها الطائفية والعرقية. وبواسطة الفتاوى والإعلام السعودي والخليجي وفتاوى الفكر التكفيري الوهابي، يجري تسويق الفتن والحروب وزراعتها في الجسد العربي والإسلامي لتنتج المشهد العاصف بأهم أقطار الامة، بحيث يتمدد النفوذ الأمريكي، وتكبر آمال المشروع الصهيوني بالتوسع والهيمنة والنفوذ، وتضيع القضية الفلسطينية نتيجة لهذا الجنون الرسمي العربي.
في كل هذا المشهد المطل على الفجيعة يغيب صوت المواطن العربي، وينسحق وجدانه وضميره خلف الإعلام الرسمي العربي النفطي المضلل، وفتاوى شيوخ الفتنة، وهنا تتراجع الدعوات نحو الحرية، واحترام الرأي الآخر، والعدالة، والديمقراطية، وتضمر وتتلاشى ويغيب صوت معظم منظمات حقوق الإنسان ودعاة الحقوق والحريات، وترتفع في الأفق وعلى امتداد الخارطة الأصوات الغرائزية نحو قتال الشيعة والروافض والمجوس، ويستدرج آلاف من الشباب نحو القتال والحرب والفتنة في سورية والعراق واليمن؛ ولا يهم إن كان هذا القتال المجيّر لمواجهة محور المقاومة إيران وسورية وحزب الله، أو حركة أنصار الله في اليمن تحت الراية الأمريكية أو الأطلسية أو الصهيونية.
وفي الأثناء غابت، أو صمتت، أو سقطت شعارات وأحزاب وقوى سياسية واجتماعية، ورموز قومية. ويسارية، وإسلاموية كان المواطن العربي يعدها لأزماته، ويدخرها لملماته الجسام.
عن هذا المشهد العربي النازف وأسبابه وحقيقة ما تكشفه هذه الأزمات وما قد تؤول إليه من تطورات يتشابك فيها ما هو داخلي وإقليمي، نتوجه بما هو ضروري من الأسئلة، نستكشف إضاءتها من وجهة نظر قومية عربية ظلت تحاول تسجيل الموقف مما هو كائن، وتستشرف وتقرأ ما هو آت، وعلى قلة من يصغي اليوم للصوت القومي العربي العقلاني، وعلى ندرة من يتنبه للمأزق تظل الحاجة لنا هنا في اليمن أن نتطلع - وسط هذا الصمم العربي والعالمي و التواطؤ على قتلنا لأكثر من عام ونصف - إلى صوت مفكر عربي شقيق، يتوجس خيفة مما يجري للأمة، ويتوجع لما يصيبها، يعبر من موقعه عن الموقف العربي القومي الذي يجب أن يكون.
مع المفكر العربي الدكتور زياد حافظ، الأمين العام للمؤتمر القومي العربي الذي يتخذ من العاصمة اللبنانية بيروت مقراً له، نجري هذا الحوار:
حافظ: في الحقيقة هناك سؤالان الأول: حول الانطباع بتراجع القوميين العرب في التصّدي لمشاكل الأمة، والثاني: حول موقف حزب ناصري من العدوان على اليمن. ففيما يتعلّق بالشق الأول: هناك مبالغة كبيرة في التراجع المزعوم للقوميين العرب. في الواقع ليس هناك تراجع بل تنامي، ويتجلى ذلك من خلال عدّة مؤشرات. أول هذه المؤشرات؛ استمرار المؤسسات الشعبية القومية في انعقاد دوراتها السنوية على مدى (26 سنة) أصدرت كافة المواقف المتعلّقة بقضايا الأمة، كما أنها بلورت خطاباً ومشروعاً سياسياً نهضوياً أصبح متن الخطاب القومي في الألفية الثالثة، فالمؤتمر القومي العربي الذي أتشرف بحمل مهام الأمين العام له ينشط في التعبير عن مواقف الأمة في مختلف القضايا وأديباته أصبحت مرجعاً سياسياً تأخذ به معظم الفعاليات السياسية الشعبية، وفى مقدمّتها المقاومات المختلفة، ممّا يؤكّد دوره ومرجعيته السياسية والأخلاقية في مقاربة قضايا الأمة. لكن بالمقابل نقر بأن وجود التيّار القومي العربي خارج السلطة يقلّل من فعّالية حضوره، وخاصة في الاعلام العربي الممسوك من قبل قوى مناهضة للتيار القومي العربي، والذي يحظى بمباركة أنظمة النظام الرسمي العربي المحاصِر للتيار العروبي من خلال تبعيته للخارج، وبسبب خشيته من الخطاب التحرّري الذي يحمله التيار العروبي والنزعة التوحيدية التي تلم شمل مكوّنات الأمة، وترفض ثقافة الإقصاء والفرز والشرذمة. كما أن الخطاب العروبي يحمل في طياته التغيير على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لإقامة مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص والإنتاج، وترسيخ العدالة الاجتماعية، فمصالح الأسر الحاكمة تتناقض مع مصالح الجماهير ممّا يجعل هذه النخب تتحالف موضوعياً، وفي كثير من الأحيان مع الخارج لحمايتها من شعوبها.
كما لا بد من الإشارة إلى تنامي مراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية والثقافية القومية في مختلف الأقطار العربية، وفي مقدمّتها مركز دراسات الوحدة العربية الذي يشكّل الإطار المؤسسي الفكري للعمل القومي العربي، فلا يمكن اليوم لأي باحث في أي قضية عربية سواء كانت قومية أو قطرية أن يقفز فوق منشورات وإنتاج مركز الدراسات الوحدة العربية الذي أصبح ممراً إجبارياً لأي باحث جدّي في الشأن القومي العربي سواء كان على الصعيد الفكري أو السياسي أو الاقتصادي.
أما في يتعلّق بموقف الحزب الوحدوي الشعبي الناصري فنأسف لموقف يؤيّد أي عمل عسكري من قبل قطر عربي ضد قطر أخر، فقضايانا الخلافية لا يمكن أن تحلّ بقوّة السلاح، وبقتل الشعب، وبتدمير البنى التحتية مهما كانت الأسباب. نحترم الاختلاف في الرأي، وأن يكون لإخوتنا في الحزب الوحدوي الناصري رأيٌ مخالف للقوى اليمنية المتنافسة على الحكم، ولكن يصعب علينا القبول بالاستقواء بدولة، وإن كانت عربية على الدولة الوطنية مهما كانت الظروف ناهيك عمّا إذا كانت تلك الدولة لا تخفي عدائها لقضايا الأمة في الوحدة والتحرير ومقاومة الاحتلال الأجنبي.
حافظ: سؤال مهم، في الحقيقة كنت أعي في تحضيري للورقة أن فكرة الدور العربي في الصراعات العربية قد تثير تساؤلات، وهي مشروعة على الأقل بالنسبة لحقب ماضية كان الدور الأمريكي والأطلسي، وقبلهما دور المستعمر الأوروبي أساسياً، ناهيك عن دور الكيان الصهيوني، مقاربتي مبنية على مقاربة الواقع الدولي حيث الدول العظمي التقليدية، وفي مقدمتّها الولايات المتحدة الأمريكية، في حال تراجع إن لم يكن أفولاً. وقد أوضحت ذلك في سلسلة من الأبحاث والأوراق والمقالات نشرت على مدى العقدين السابقين.
في البداية كانت هناك صعوبة عند العديد من المحلّلين والمراقبين العرب القبول بفكرة الأفول أو حتى التراجع التي أصبحت اليوم تحظى بتأييد أوسع ومتنامي، من هذا المنطلق اعتبرت أن الدول في المنطقة العربية وفى الإقليم عموماً دولٌ متخاصمة مع الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها - أن تراجع الأخيرة - يفسح المجال للتصدّي لها سواءً من باب رفض الهيمنة أو من باب الاستفادة من هامش أوسع للتحرّك، وعلى هذه القاعدة، لم تعد كل تحرّكات الدول العربية التابعة تقليدياً للولايات المتحدة وفقاً للمشيئة الأمريكية وإن كانت الأخيرة لا تعارض بشدّة تلك التحرّكات، صحيح أن الإعلام العربي المناهض للولايات المتحدة يعتبر التحرّك السعودي في سورية أوفي اليمن تنفيذاً لقرار أمريكي، إلا أنه في رأينا يعد تنفيذاً لرغبة سعودية خاصة بها، أما تحديد النسب كما تحاول استخلاصه في سؤالك؛ فهو نسبي، ويصعب تحديده برقم، ولكن نلاحظ مدى تصاعد التوتر بين حكومة الرياض والبيت الأبيض، هذا التوتر غير المسبوق والجفاء المتبادل بين حكومة الرياض التي تنتظر إدارة جديدة أكثر تماهياً مع رغباتها في الإقليم ومع الإدارة الحالية يدلّ بوضوح أن حكومة الرياض لها هامش من التحرّك خارج عن الرضى الأمريكي، فالموقف السعودي في كل من سورية واليمن قد يتقاطع مع سياسة أمريكية معيّنة، ولكنه ليس بالضرورة متطابقاً مائة في المائة معه، كما أن الخلاف مع إدارة أوباما في مقاربة الملف النووي الإيراني ينسجم مع الخلاف مع تلك الإدارة التي لم تتدخل عسكرياً بشكل مباشر في سورية، ناهيك عن الحذر السعودي، ومعه العديد من الدول العربية المتحالفة تقليدياً مع الولايات المتحدة في إخفاقها في حماية الحكومات العربية المحسوبة على الولايات المتحدة، والتي انهارت مع التحرّك الشعبي؛ أي ما يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك مصالح للحكومات العربية متناقضة مع سياسات الإدارة الأمريكية الحالية، وهناك انزعاج واضح ومتبادل بين الطرفين.
ليس من البسيط أن يقدم الرئيس الأمريكي على القول إن الخطر الذي يهدد دول الخليج العربي ليست إيران، بل الوضع الداخلي في تلك الدول، هذا لا يعني أن تلك الدول أصبحت مستقلة كلياَّ عن الإرادة الأمريكية، ولكن مسار الأمور هو في المزيد من التحرّك المستقل، وإن كان للأسف في الاتجاه الخاطئ في العديد من قضايا الأمة وفى مقدمّتها (قضية فلسطين).
أما في يتعلق بالشق الأخر من السؤال؛ فإن التحرّك الشعبي في الدول العربية هو بداية الصراعات الدامية في العديد من الأقطار العربية (سورية، اليمن، ليبيا)، وبالتالي كانت المطالب بالتغيير عند هذه الجماهير مطالب عربية شعبية مشروعة، صحيح أنه تم اختطاف ذلك الحراك وعسكرته في سورية واليمن وليبيا، وما زالت البحرين تطالب سلمياً بالإصلاح والتغيير لكن يتم قمعه وسط سكوت عربي تام، وكان المطلب التغييري مطلب خارجي دولي أو إقليمي! فهل للولايات المتحدة يد في الحراك البحريني أو اليمني؟ وهل لإيران يد في المطلب التغييري في هذه الدول؟ هل يمكن إنكار أحقية المطالب التغييرية؟ فهل كان حراك الجماهير العربية في اليمن وسورية وليبيا أمريكي التوجه، أو إيراني، أو تركي، وبالتالي يتم تجاهل الموقف الشعبي؟
لكن لا ننكر أن الولايات المتحدة استطاعت مع أدوات محلية اختطاف الحراك الشعبي، من تلك الزاوية، تكون الصراعات العربية عربية الصنع، وأن تخدم الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بشكل مؤقت، فستنتهي الصراعات - إن شاء الله قريباً - وستقوم حكومات وطنية تحاكي مصالح جماهيرها بما فيها قناعاتها بالتصدّي للكيان الصهيوني ودعم مجهود التحرير واسترجاع الحقوق المسلوبة، ولمَ لا، تحقيق الوحدة العربية.
حافظ: أنهيت ملاحظتك بعلامة استفهام، وكأنها تدلّ على سؤال، وإن لم تفصح عنه! لكن أسمح لنفسي بتوضيح بعض النقاط: الفتنة والصراع المذهبي هو أفتك سلاح يستعمله أعداء الأمة من خارج الأمة ومن داخلها؛ التفتيت هو للمزيد من إضعاف الأمة، وتمكين الهيمنة الأمريكية والصهيونية، صحيح أن الدول التي تشهد صراعات دموية هي التي كانت، وما زالت في رأينا تشكل العمق التاريخي والحضاري للقضية الفلسطينية، مع العلم أن كل المجتمعات العربية مناصرة للقضية الفلسطينية، فبعد إخراج مصر من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني تم استهداف كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، كما تمّ تحييد إلى حدّ ما كل من السودان والجزائر عبر التهديد بالمزيد من التقسيم (السودان) وإعادة الفتنة (الجزائر) أما لبنان ؛فهو على بركان قد ينفجر لولا الوعي الكبير عند اللبنانيين وحكمة قيادتهم التي استطاعوا حتي الآن تجنيب لبنان الكارثة .
حافظ: لا أعتقد أن الاستعمار القديم عاد إلى المنطقة، وإن كان يحاول بذل مجهود في ذلك الاتجاه، فقدراته السياسية والاقتصادية والعسكرية على العودة محدودة جداً خاصة وأن احتمال قيام مقاومات لعودته موجودة، ففي رأينا لم تعد موازين القوة في مصلحة تلك الدول، وهذا ما يغيب عن بال الكثيرين.
ما زال الكثيرون منبهرون بقوة تلك الدول، ولا ينظرون إلى مواطن الضعف القاتلة، لكن هذه الدول ما زالت تستفيد من ضعف وسوء تقدير للنخب العربية التي ما زالت تعتقد أن أوراق اللعبة في يد دول الاستعمار الجديد والصهيونية.
نصر تموز كشف عورة الكيان الصهيوني، وإخفاق الولايات المتحدة في بلاد الرافدين، وبلاد الشام جعلها تستثمر في جماعات التوحّش والتعصّب؛ لأنها أصبحت عاجزة عن التدخّل المباشر، هذه نقطة ضعف قاتلة، وليست نقطة قوة، خاصة إذا ما انقلب السحر على الساحر، كما نشهد في أوروبا والولايات المتحدة من الأعمال المنسوبة لربيبة الاستعمار الجديد!
في مطلق الأحوال أصبحت ثقافة المقاومة الموجودة في الأمة كفيلة بردع تلك المغامرات وعدوان الكيان الصهيوني على لبنان في تموز 2006م وهزيمته خير دليل على ما نقوله.
أما اليوم، فقدرات المقاومة أكثر بكثير، والدليل على ذلك ما حصل في العراق مع الاحتلال الأمريكي، وما يحصل اليوم في سورية حيث الحرب الكونية عليها لا ولن تحقق أهدافها، لكن المشكلة تكمن في النخب الحاكمة التي ما زالت تعتقد بأن الغرب المستعمر القديم يستطيع أن يفرض إرادته، كذلك هناك قناعة عند النخب العربية الحاكمة أن الكيان الصهيوني يستطيع أن يفرض ارادته، عند بعض النخب تمّ استبدال العداء للكيان بالعداء مع الجمهورية الإسلامية، ما يدلّ عن سوء تقدير في أحسن الأحوال، وعن عداء للأمة في أسوء الأحوال، وكما تلاحظ في ورقتنا، أبرزنا أن الدور العربي في الصراعات العربية هو أقوى من الدور الخارجي فيها دون أن تنفي دور الدول الخارجية (إقليمية ودولية).
حافظ: هنا أيضاً سؤالان في سؤال واحد، فيما يتعلّق بالديمقراطية في الفضاء العربي، فما زال الحديث عنها متن الخطاب السياسي في العديد من الأقطار التي شهدت حراكاً جماهيرياً (تونس، مصر، البحرين) وحتى في لبنان حيث المحاولات لتجاوز الذهنية الطائفية والمذهبية ما زالت قائمة رغم قوة ما يمكن تسميته بالمجتمع الطائفي العميق، أسوة بالدولة العميقة في دول كمصر أو تونس التي لا تواجه المسألة الطائفية، كما يواجهها لبنان.
ولا أعتقد أن موجة الحراك الشعبي قد انطفأت وأنا على قناعة أن الجماهير ستعود إلى الميادين لتحقيق أهدافها، لكن وجود جماعات التعصّب والتوّحش أوجدت الذريعة لممارسات قمعية من قبل السلطات التي ما زالت تخشي غضب الجماهير، لكن ليست كل المجتمعات العربية في سلّة واحدة .فما يحصل في تونس دليل هام أنه يوجد توازن بين مطالب التغيير ومقتضيات مكافحة التعصّب والتوحّش، في لبنان، رغم تراجع أداء الدولة، ما زال هناك وعي يقضي بالحفاظ عليها، فعلينا أن ندقّق بوصف الحالات، وعدم الوقوع بتعميمات قاطعة لا تعكس يقين الواقع الذي نعيش .
أما في الفضاء الغربي ؛فنرى تراجعاً واضحاً في الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان خاصة مع تصاعد الموجات العنصرية في أوروبا والولايات المتحدة، وخاصة بعد استحقاقات ديمقراطية أتت بنتائج لا ترضي النخب الحاكمة، فرئيس لجنة الاتحاد الأوروبي يندّد بنتائج الاستفتاء في بريطانيا حول خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقيادات الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة غير راضية عن تسمية (دونالد ترامب) من قبل الناخبين الجمهوريين، كمرشح الحزب الجمهوري للرئاسة .صعود اليمين المتطرّف في الغرب يكشف زيف الادعاء بالديمقراطية حيث الديمقراطية أصبحت حكراً على المجموعات المالية، النظام الذي يدّعي الديمقراطية في الغرب يجنح نحو حكم المال والأقلّية الثرية، و ذلك على حساب الأكثرية .
ملاحظة أخرى: حرّية الفرد التي تشكّل العمود الفقري للديمقراطية في الغرب مبنية على النفعية، وبالتالي تصبح خاضعة لحكم الغرائز خاصة في أوقات الضيق الاقتصادي، كما يحصل الآن.
في أيام البحبوحة الاقتصادية يتغنون بالانفتاح على الأقليات العرقية والدينية؛ لأنها تشكل يد عاملة رخيصة وسوقاً استهلاكية، بينما في أيام الشدة تصبح منافسة في لقمة العيش، وخاصة في الخدمات الاجتماعية المتقلّصة بسبب سياسات التقشف الناتجة عن المأزق الاقتصادي والمالي التي تشهده مجتمعات الغرب.
أما فيما يخص الفكر القومي، فنحن أصحاب المشروع النهضوي العربي الذي يعتبر الاستقلال الوطني الرافض لأي تبعية، ورفض الاستبداد، والوحدة العربية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والتجدّد الحضاري سلّة واحدة متكاملة، فمصلحة المجتمع مع احترام حقوق الفرد، هي التي تحرّك المشروع النهضوي العربي تماشياً مع التراث الفكري والحضاري الموجود منذ أكثر من 1400 سنة.
البعد الأخلاقي هو في صميم فكرنا، وحقوق الانسان في تراثنا نابعة عن ذلك البعد الذي يحفظ التوازن بين حرّية الفرد وحرية المجتمع في إطار العدل والوسطية التي هي شكل من التوازن.
حافظ: يُفهم من السؤال أن هناك من يعتقد بأن المؤتمر تنظيم سياسي له برامج عمل أسوة بالأحزاب، المؤتمر القومي العربي ليس تنظيماً سياسياً كالأحزاب، ولا يهدف لذلك. المؤتمر منبر لمكوّنات المشهد السياسي في الوطن العربي، فهو يضم القومي العربي من السلالات التقليدية إذا جاز الكلام، كالناصريين والبعثيين والحركيين القوميين العرب، كما يضم شخصيات من التيارات الإسلامية، ويساريين، وليبراليين، وجميعهم بصفتهم الشخصية وليس الحزبية، كما يضمّ نقابيين وناشطين في مختلف قطاعات العمل العام، وباحثين وجامعيين وأدباء إلخ، إذاً، تكوين المؤتمر يختلف عن تكوين أي تنظيم سياسي، ولم يكن في يوم من الأيام مؤسسة تنافس الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية الأخرى، هدفه الالتقاء والتداول في شؤون الأمة والتعبير عن مزاج الأمة في مختلف القضايا وإصدار مواقف تعبّر عنها، المؤتمر يهدف إلى إيجاد ثقافة تقبل برأي الغير عبر الحوار الذي لا يخلو في العديد من الأحيان من الصعوبة، ولكنه يؤدي الى توافق، فهذه الثقافة توحّد ولا تفرز، وهذا هو معنى الوحدة الحقيقية بين أبناء الأمة.
لكن ذلك لا يمنع أعضاء المؤتمر بالقيام بمبادرات سياسية تهدف إلى تحقيق أهداف محدّدة في معالجة أزمات أو قضايا تفرض حالها على الأمة، وهناك العديد من المبادرات والوساطات التي قام وما زال يقوم بها أعضاء المؤتمر في هذا السياق في معظم الأحيان بعيداً عن الإعلام لإنجاح المهمة، وفي بعض الأحيان مع الإعلام للإضاءة على الحدث.
ولا يجب التقليل من دعوة المؤتمرات والملتقيات والمنتديات التي تحاكي قضايا معيّن؛ لأنها تساهم في إيجاد الضغط على النخب الحاكمة، فعلي سبيل المثال، انعقد مؤخراً المؤتمر العربي العام بدعوة من المؤتمر القومي العربي والقومي الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية وهيئة التعبئة الشعبية العربية، وذلك لدعم المقاومة ورفض نعتها بالإرهاب. حضر المؤتمر أكثر من 300 شخصية عربية من مختلف الأقطار العربية رفضت قرارات الهيئات العربية والإسلامية التي وصفت المقاومة وخاصة (حزب الله) بالإرهاب، كما كانت مناسبة لرفض، ونبذ الفتنة المذهبية عن المقاومة، وعن الصراعات القائمة في بعض الأقطار التي يراد منها أن تكون مذهبية.
وقبل هذا المؤتمر كانت مبادرة المؤتمر من أجل العدالة في فلسطين الذي عقد في تونس في شهر نيسان 2016م حضره أكثر من 400 شخصية عربية ودولية، وهذا إنجاز كبير في سياق الحصار الإعلام العربي والدولي على القضية الفلسطينية، وفى السنوات السابقة أقيمت المؤتمرات لدعم المقاومة، وحق العودة، والجولان، والقدس، والتضامن مع الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، إلخ. بعض هذه المؤتمرات تنعقد بشكل دوري ممّا يجعل التحرّك تحرّكاً مؤسسياً.
مبادرات أعضاء المؤتمر القومي العربي أوجدت المؤتمر القومي الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية وهيئة التعبئة الشعبية، جميعها مستقلة عن بعضها البعض ومستقلة عن حكومات عربية، فتجد العديد من أعضاء المؤتمر القومي العربي في كل هذه المؤسسات، والحرص على الاستقلالية هو السمة الرئيسية للمؤتمر القومي العربي، وهذه مصدر قوّته وفعّاليته رغم المحدودية القاهرة لإمكانياته المادية.
لذلك نجح المؤتمر في أن يستمر ويتنامى دوره على مدى أكثر من ربع قرن رغم كل الأزمات التي مرّت بها الأمة ورغم كل محاولات استقطاب المؤتمر لجهات متصارعة في الأمة.
كما أن لمركز دراسات الوحدة العربية وما يقوم به من إعداد حلقات نقاشية ومؤتمرات وندوات حول قضايا الأمة الساخنة أو المزمنة، دور في منتهى الأهمية في بلورة ثقافة سياسية مشتركة بين مكوّنات الأمة.
من مساهمات ومبادرات أعضاء المؤتمر القومي العربي: المخيّم القومي العربي للشباب والملتقيات الفكرية الشبابية القومية، من رحم المخيّم والملتقيات خرج عدد من قيادات الحراك الشعبي الذي شهدته الأمة، فمهمة المؤتمر القومي تختلف عن مهمة الأحزاب وتكملها، وليست بديلة عنها.
مبادرات المؤتمر القومي العربي وخاصة أعضاءه تهدف إلى تراكمات ضاغطة على المدى المتوسط والبعيد، النخب الحاكمة تحاول دائماً جذب المؤتمر لسياساتها والمؤتمر حريص على استقلاليته، ومن هنا نجد العلاقة بين المؤتمر والحكومات العربية خاضعة لتجاذبات حول استقلاليتها، هذه الاستقلالية هي التي تجعل المؤتمر القومي العربي يجنح ليصبح مرجعية سياسية ومعنوية تحاول الحكومات العربية إما كبحها أو استمالتها، هذا دليل على مدى فعّالية القوة المعنوية لدى المؤتمر.
حافظ: أعتقد أن هناك مسؤوليات عديدة تتوزع على جميع الفعّاليات والقوى السياسية العربية لاستعادة مركزية القضية الفلسطينية في اهتمامات النخب الحاكمة والنظام الرسمي العربي، كما أن هناك مسؤولية أولية على الفصائل الفلسطينية في توحيد صفوفها وجهودها وعقد المصالحات بينها كي لا تتذرّع النخب العربية الحاكمة بالانقسام الفلسطيني في تبرير تراجع الأولوية عندها، لكن هناك بالمقابل من لا يريد عودة مركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ويستبدل العداء للكيان الصهيوني بالعداء الافتراضي للجمهورية الإسلامية في ايران ويسخّر إمكانياته الضخمة لهذا الغرض .
أما على الصعيد الفكري، فما زالت القضية الفلسطينية هي التي تحرّك الفكري القومي العربي، فالمشروع النهضوي العربي الذي يحمله "العروبيون" لن يتحقّق وفلسطين محتلة، والمؤتمر القومي العربي حريص وسيستمر في حرصه على التأكيد على مركزية وأولية تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.
حافظ: أود التنبيه والتأكيد على ضرورة عدم الوقوع في التعميم. فالتيّار الإسلامي كبير ومتنوّع وكذلك التيّار العروبي.
فلا يجوز اختزال التيّار الإسلامي السياسي أو القومي العربي بفصيل واحد، فالعلاقة مثلاً مع (حزب الله) كانت وما زالت وثيقة مع الأكثرية الوازنة في التيّار العروبي وذلك بسبب المقاومة التي يقودها (حزب الله) في لبنان، كما أن فصائل فلسطينية عديدة من منبت إسلامي تحظى بعلاقات جيدة ومتينة مع التيّار العروبي، ونقصد بذلك (الجهاد الإسلامي) وحركة(حماس)حيث لم تنقطع العلاقة، ولم تمر لا بجمود ولا بجفاء رغم الاختلاف حول الوضع في سورية، وكذلك الأمر مع العديد من التيّارات الإسلامية في المغرب العربي، أما إذا كنت تقصد جماعة الإخوان المسلمين، وهم فصيل من بين الفصائل الإسلامية؛ فالعلاقة ما زالت قائمة والحوار مازال قائماً، وأبشّرك أنه سيُعقد قريباً حوار معمق بين التيّارين لتقييم العلاقة خلال السنوات الماضية، وبشكل عام فإن التيّار القومي والتيّار الإسلامي يتمسّكان بالإنجازات المشتركة، ويحرصان على البناء على التراكمات الإيجابية التي تحققت. وهذا لا يعني أنه لا يوجد تباينات في الرأي في بعض القضايا، ولكن ما يجمعهما أقوى ممّا يفرّقهما رغم ما يصدر عن بعض الرؤوس الحامية في كلا التيّارين.
حافظ: أنا من المدرسة التي لا تؤمن بجدوى قواعد اللعبة الصفرية في تقييم العلاقات السياسية بين أطراف تتنافس في يوم، وتتقارب في يوم آخر. فلا أؤمن أن ربح طرف هو خسارة لمنافسه، مهما أشتدّ التنافس؛ وإلا لوقعنا في حلقة مفرغة يخسر فيها الجميع، ومثّل لبنان خير دليل على عبثية اللعبة الصفرية بين المذاهب والطوائف وقياداتها القصيرة النظر، فالتنازل لمصلحة الوطن ليس خسارة تجاه الفريق المنافس، بل مكسب للوطن، كذلك الأمر في العلاقات الدولية، ففي ذلك مكسب للطرفين كالسلم والتعاون؛ لذلك لا أعتبر الاعتذار التركي للروس تراجعاً بل مساهمة في خلق أجواء تؤدّي في آخر المطاف إلى جعل تركيا جزءاً من الحل بدلاً من أن تكون جزءاً من المشكلة، نحن من الذين يدعون إلى تشابك مصالح الكتل الثلاث في المنطقة، الكتلة العربية، والكتلة التركية، والكتلة الإيرانية على قاعدة الندّية والتكامل، وليس على قاعدة القوّمة والتنافس، فالعرب عرب، والأتراك أتراك، والإيرانيون إيرانيون. لكل طرف حق في بلورة مشروعة السياسي، ولكن ليس على حساب الآخرين.
هذه ثقافة نسعى إلى بلورتها عند جميع الأطراف، نجاح أو فشل أي مشروع يعود في التقدير الصائب أو غير الدقيق لموازين القوة في المنطقة وفى مسار هذه الموازين، عاجلاً أم أجلاً سيجد عناصر تلك الكتلة التاريخية مصلحة في استرجاع الوحدة الثقافية التاريخية، وتحويلها الى كتلة سياسية اقتصادية تستطيع أن تقف ضد مطامع ومخاطر قد تأتي من الشمال ومن الغرب ومن الشرق ومن الجنوب.
إعادة العلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني أمر مبالغ به، إذا اعتبر البعض أنها قد انقطعت في الأساس أو في يوم ما، وهي لم تنقطع، هذه العلاقة ستكون دائماً عنصر تحفّظ عربي تجاه قيام علاقات طبيعية مع تركيا كما نفهمها ونتمنّاها، وعلينا الصبر والعمل لإقناع تركيا بأن مصلحتها الاستراتيجية ليست مع كيان محكوم بالزوال أو مع كيان يخالف تراث تركيا وبيئتها الطبيعية، فتركيا في الشرق ومن تاريخ الشرق، وليس في الغرب أو مع كيانات غربية مزروعة في الأساس للمس بمصالحها الطبيعية مع المجتمعات العربية والإسلامية.
حافظ: خروج مصر من دائرة العربي الصهيوني أدّى إلى تراجع كبير في الأمن القومي العربي، فلولا ذلك الخروج؛ لما كانت الحرب الأهلية في لبنان ولا الاحتلال الصهيوني لجنوبه، ولا للحرب العبثية بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران، ولا لغزو الكويت، ولا لاتفاق أوسلو، ولا لحرب الخليج الأولى، ولا لاحتلال العراق، ولا لتدمير ليبيا، ولا للحرب الكونية على سورية، ولا للعدوان على اليمن، ولا لقمع طموحات الشعب في البحرين، ولا - طبعاً - لتراجع القضية الفلسطينية، ولا لكل المآسي التي يمكن أن نعدّدها، فعودة مصر ستساهم في رأيي في إعادة زمام المبادرة في الحفاظ على الأمن القومي العربي والتوازن مع دول الإقليم والدول المحيطة بمنابع النيل ومع الدول الراغبة في الهيمنة على مقدّرات العربية، لكن عودة مصر لن تتحقق إن لم تقم بمراجعة أسباب خروجها من الحفاظ على الأمن القومي العربي وخاصة تبعات (كامب دافيد)، والعلاقة مع الكيان الصهيوني.
حافظ: أعتقد عناصر الإجابة في السؤال السابق؛ خروج مصر لم يخلق فراغاً فحسب، بل أفقد التوازن لمصر ولمعظم الدول العربية، فحتى مفهوم الأمن القومي أصبح مفقوداً أو مشوّهاً، من المضحك المبكي أن يترأس الكيان اللجنة القانونية بالمنظمة الدولية، وهومن ضرب عرض الحائط جميع القرارات التي صدرت بحقه، هذا يدلّ على ترهّل النظام الدولي ومؤسساته والقوى المتحكمة به، لكن هذا موضوع آخر يستحق البحث، ولكنه خارج عن إطار الأسئلة المطروحة، كما نأسف على موقف بعض الدول العربية التي ما زالت تعتقد أن مصلحتها ومصلحة الكيان قد تتلاقى، متجاهلة أن مصلحة الكيان هي في الأساس عدم وجود حكومات أو كيانات مستقلّة تحاكي مصالح شعوبها، وتحافظ على الموروث الثقافي التي يريد الكيان اقتلاعه، كما اقتلع المعالم العربية عن العديد من القرى والبلدات في فلسطين المحتلة.
حافظ: هنا - أيضاً - قرار القمة العربية دليل على فقدان التوازن والبوصلة في آن واحد، والأسباب عديدة؛ منها ما ذكر في الأسئلة السابقة، كخروج مصر، ويمكن إضافة ارتفاع أسعار النفط خلال العقود الأربعة الماضية ما مكّن بعض الدول النفطية في الطموح للعب دور القائد والمهيمن على النظام العربي وخاصة بعد تدمير العراق واحتلاله، فخروج مصر وتدمير العراق، والآن إغراق سورية في حرب كونية شنّت عليها لرفضها لواقع النظام العربي والاستسلام للمشيئة الصهيونية ودعمها للمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين، كل ذلك جعل ممكناً فرض قرارات على الجامعة العربية بشكل يعارض الأمن القومي العربي، فالعدوان على اليمن بحجة الدفاع عن الأمن القومي العربي أدّى إلى تهديد ذلك الأمن عبر السماح لجماعات التعصّب والتوحّش من التمدّد في اليمن، ناهيك عن تدمير اليمن وقتل شعبه، الخطر على الأمن القومي العربي هو، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني، وجود قواعد عسكرية في الخليج وفي منطقة باب المندب، وليس بسبب تطلّعات فئات يمنية في رفضها للتهميش.
أما اعتبار حركة أنصار الله تهديداً للأمن القومي العربي؛ فهو هراء، حركة أنصار الله حركة سياسية شعبية في اليمن لها الحق في التمثيل السياسي ورفض تهميشها أما توجّهاتها السياسية؛ فهذا شأن داخلي يمني يحسمه اليمنيون، فلا داع لتدخل عربي أو إقليمي أو دولي في حسم تلك الأمور