لا تقدم لنا تصريحات الرعاة الرسميين للعملية العسكرية على اليمن التي أطلق عليها "عاصفة الحزم" والبيانات الصادرة عنهم تفسيراً متماسكاً ومقنعاً لعملية بهذا الحجم من الاتساع والضخامة، ولا ما يستدعي هذا الاستنهاض بتشكيل تحالف إقليمي تشارك فيه عشر دول عربية وبرعاية ومشاركة أمريكية([1])، ودعم سياسي ولوجستي بريطاني وفرنسي، وليس سهلاً تصديق الجبير أن: "حماية الشعب اليمني وإعادة الحكومة الشرعية" تمثل أهدافاً تفسر هذا الانقلاب المفاجئ في السلوك الخارجي للعربية السعودية التي اعتادت سياسيةً أكثر حذراً، تعتمد على وكلائها المحليين في اليمن، وعلى الحماية الغربية والأمريكية، وإذا كانت شرعية الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي هي المشجب الذي علقت عليه السعودية حملتها العسكرية على اليمن؛
غير أنه لا يكفي لفهم الدوافع التي حملت المملكة العربية السعودية لأن ترمي بكل ثقلها السياسي والدبلوماسي والعسكري والاقتصادي خلف هذه العلمية "عاصفة الحزم"، وتسخير كل القدرات المالية المهولة لدول الخليج لأهداف تطوعية مثل إعادة الشرعية، وحماية الشعب اليمني، وفتح الطريق للمحادثات السياسية، بحيث يتمكن اليمن من استكمال الفترة الانتقالية - كما جاء على لسان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في تصريحه لقناة إن بي سي الإخبارية الأمريكية([2]).غير أنه يتناقض وسلوك المملكة الإقليمي في كلٍ من سوريا ومصر؛ بدعم الجماعات المتطرفة ضد الرئيس الشرعي المعترف به في سوريا، ودعمها وتأييدها الإطاحة بالرئيس المصري السابق محمد مرسي، كما أن المملكة ليست منظمة أخلاقية لديها فائضٌ من المقاتلين المتطوعين للدفاع عن الشعوب المستضعفة ولذلك مثل هذه الأهداف التطوعية ما هي إلا جزء من البروباغندا (propaganda) الإعلامية للحرب، وفي عبارة مشهورة لمكيافيللي يقول فيها: "إذا أردت تصفية خصمك فعليك أن تلتمس مبرراً سامياً ومقبولاً".
أضف لذلك استقراء قائمة الأهداف المعلن عنها للعاصفة كما جاءت على ألسنة مسؤولين سعوديين وخليجيين؛ يضعنا أمام قائمة من الأهداف المتناقضة تتفاوت من مسؤول لآخر، ومن وقت لآخر؛ تعكس حالة اللايقين التي اعترت عملية اتخاذ قرار الحرب.
يقول الصحفيان الأمريكيان همفري وستيفان ريختر: "لقد مضى عام على بداية الحرب التي شنتها الحكومة السعودية على اليمن، وحتى الآن لم تقدم السعودية ولو توضيحاً بسيطاً عن الأسباب التي دعتها إلى شن الحرب؛ لتبدأ به أو لتدعم به دفاعها علناً لاتخاذ قرار شن الحرب"، ويستشهدان لذلك باعتراف أحد أمراء الأسرة الحاكمة وسفيرها الحالي لدى الولايات المتحدة الأمير عبد الله آل سعود: "أنه بالكاد اتضح للعامة وله شخصياً! لماذا قامت المملكة بشن الحرب في المقام الأول"([3])؟
التفسير الأقرب للعاصفة هو من خلال مقاربتها في سياقها الإقليمي والدولي، وتفاعلاته مع التحولات على الصعيدين المحليين اليمني والسعودي، فالبيئة السياسية الدولية، ووضع الدولة في البيئة السياسية الدولية، ومكانتها في النظام الدولي- كما يؤكد (والتز) من المدرسة الواقعية "تلعب دوراً حاسماً في تفسير سلوكها الخارجي"([4]).
عادة في تفسير السلوكيات النزاعية يتم التركيز على مفاهيم استراتيجية، كاختلال النسق الدولي والفراغ الذي يحدثه تراجع دولة كبرى أو انهيار وتفككك دول إقليمية فاعلة أو وجود موقع جيوستراتيجي هام يشكل نقطة جذب وتنافس عند القوى الدولية والإقليمية.
في هذه المقاربة سنحاول معالجة عاصفة الحزم ضمن السياق الجدلي للتحولات السياسية والأمنية على الصعيد اليمني، لا سيما بعد ثورة 21سبتمبر، وسيطرة أنصار الله على العاصمة صنعاء، ووصولهم لمشارف باب المندب، و التفاعلات المكثفة للهزات الإقليمية، واسقاطات التشكل الجديد للنظام العالمي؛ وتراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وصعود قوى أخرى وفي مقدمتها روسيا والصين، والانفراجة في ملف المفاوضات النووية الإيرانية والتقارب الإيراني - الغربي، وثورات الربيع العربي وانعكاساتها على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة وعلى وضع السعودية في اليمن، وتأثير وصول قيادة جديدة في السعودية بنهج مغاير للسياسات الخارجية التقليدية لحكام العربية السعودية.
مرت العلاقات السعودية - اليمنية منذ قيام ثورة سبتمبر 1962م بسلسلة من التقلبات والتبدلات تبعاً لطبيعة وتوجه الأنظمة السياسية المتعاقبة، وبفعل الموقع الجغرافي لليمن، والوفر المالي للسعودية تهيأ للأخيرة أن تكون فاعلاً رئيسياً في صناعة الأحداث، وتكوين المناخ السياسي على الساحة اليمنية.
تتشارك السعودية الجغرافيا مع اليمن ومع دول أخرى، لكن اليمن بالنسبة إليها يمثّل حالة جيوسياسية مختلفة، تتعدى الجغرافيا وقيم الجوار المعتادة، فهو أحد أهم مجالاتها الحيوية والأمنية التي لا يمكن الالتفات عنها أو إهمالها([5])؛ نظراً للموقع الاستراتيجي لليمن الذي يمثل نقطة جذب مركزية في الشرق الأوسط، ومصدر تأثير في المجال الخارجي، والأهمية الاستراتيجية لشريان باب المندب في لعبة الأمم الجديدة، ودوره في بلورة موازين القوى بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولذلك قيل: من يحكم صنعاء يحكم المدخل الجنوبي للجزيرة العربية.
التركيبة الديموغرافية المذهبية المتنوعة لليمن هي الأخرى تمثل مصدر قلق للرياض؛ إذ ينتمي معظم سكان الهضبة الشمالية إلى الفرقة الزيدية (إحدى الفرق المصنفة على التيار الشيعي) التي تتناقض مع أيديولوجية النظام السعودي المعتمد على الحركة الوهابية كنصير سياسي وعقائدي لتكريس شرعية حكم آل سعود، وذراع أيديولوجية في معاركهم الجيوسياسية.
يعتقد النظام السعودي أن اليمن ينبغي إبقاؤه تحت الوصاية تابعاً له على نحو مستمر، وعلى حد مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية أن السعودية سعت دوماً إلى جعل الحكومة المركزية في اليمن ضعيفة ومنقسمة، فوجود يمن قوي وموحد قد يتسبب بالمشاكل للعائلة المالكة. ([6]).
يتم هذا الاستتباع بإضعاف الدولة المركزية؛ فخلال الخمسة عقود الماضية لم تكن بعض دول الخليج تتعامل مع اليمن من باب مؤسسات الدولة، بل من نافذة مراكز القوى خارجها ضمن لوبي كبير يُعرف تقليدياً بـ اللجنة الخاصة، وتضم الآلاف من مشايخ قبائل، وجنرالات وسياسيين ومثقفين...في شبكة عملاقة تتمدد بانكماش الدولة وعلى حسابها ([7]).
في سبيل إبقاء اليمن ساحة نفوذ حصرية؛ تمانع الرياض إقامة علاقات لليمن مع الدول الفاعلة خارج نافذتها، أو أن تبني أي قوة أجنبية قواعد تأثير لها في اليمن، لأن من شأن ذلك أن يؤثر على الأحداث في اليمن، وشبه الجزيرة العربية ككل؛ حتى الولايات المتحدة الأمريكية ظلت إلى فترة قريبة تعتبر اليمن محمية سعودية، وتعتمد في علاقاتها مع اليمن عليها، وتنظر للصراعات والمشاكل في اليمن بعيون سعودية.
"نظرية الدولة الضعيفة" التي تستند لها السياسة السعودية وإن ساعدتها في التفرد باليمن لعقود؛ إلا أن مضاعفات نتائجها عمقت من هشاشة الدولة وتآكل شرعيتها، وانعدام الاستقرار السياسي، وضعف سيطرتها على كل الجغرافيا اليمنية، والعجز عن فرض سلطة القانون، وانتشار السلاح المتوسط والثقيل، وتكون كيانات شبه عسكرية من الجماعات والأحزاب والقبائل، والدخول في متوالية هندسية من الصراعات والفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتقويض السيادة الوطنية وتحول اليمن لساحة استقطاب إقليمية ودولية.
لقد أفرز سوء الإدارة السياسية حركاتٍ احتجاجية في الشمال وفي الجنوب، وحراكاً سياسياً معارضاً توّج بأحداث 2011 م، وأسفر عن واقع جديد لم تعد الرياض فيه القبلة السياسيّة الوحيدة للحجاج السياسيين اليمنيين، فقيادات حزب الإصلاح حولوا قبلتهم نحو دولة قطر التي دخلت على خط الأزمة اليمنية بقوة عقيب ثورة فبراير، وأخذت تزاحم السعودية على نفوذها ورجالها في اليمن؛ كما دخلت علاقة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه بالسعودية مرحلة من الفتور والشك، والمجاهرة بالعدائية بعد عاصفة الحزم؛ وفي المقابل تحسنت علاقتهم بالإمارات التي تتزعم الحرب الإقليمية على الإخوان المسلمين؛ إضافة إلى طهران التي ترتبط بعلاقة جيدة مع أنصار الله وبعض القيادات الجنوبية، أما الولايات المتحدة فإن سفيرها السابق فايرستاين أصبح اللاعب الأساسي في معظم الملفات السياسية، وكان يتصرف كمندوب سامٍ في اليمن، ويمسك بمعظم الملفات السياسية.
جاء مؤتمر الحوار الوطني ليمثل محطة راهن عليها اليمنيون للخروج من النفق المظلم؛ إلا أن القيادات الرسمية والحزبية التي تولت مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية لم يكن أداؤها مستوعباً لمنطق الأزمات وتداعياتها ومخاطرها، ووقعت ضحية للاحتواء الزائف الذي يعتقد أن منطق الإرادة - لا منطق الأزمة - هو الذي يسير الأحداث وأنه بقليل من الشطارة يمكنه النط على الواقع المأزوم، والتحايل على شروطه ومعادلاته، غير ملتفتين إلى أن التأزيم بلغ حداً يفوق إمكانيات الاحتواء المراوغ، أو تقبل الترحيل والسلحفة.
تعسف الرئيس المستقيل هادي في استخدام صلاحياته على هيئات الحوار الوطني، والصلاحيات التي منحته إياها المبادرة الخليجية لإفراغ عملية الحوار من مضمونها، وسلق مهام الهيئات المنبثقة عن مؤتمر الحوار الوطني، وفرض مسار مرسوم سلفاً متجاوزاً مبدأ التوافق الحاكم للعملية الحوارية في قضايا مصيرية واستراتيجية؛ كقضية الأقاليم التي تعامل معها باستخفاف بالغ وإخراج مسرحي هزيل، غير عابئ بردود الفعل المحتملة للقوى الفاعلة، ولا بخارطة التوازنات المتشكلة، واضعاً بيضه كله في سلة المجتمع الدولي دون اعتبار للإرادة الشعبية ولا حالة السخط المتفاقمة على سياساته وسياسات حكومة الوفاق المنصرفة عن الجماهير، وعن المضامين الاجتماعية لثورة فبراير، وسلسلة السياسات الاقتصادية الكارثية التي تبنتها للتواؤم مع مصالح الاقتصاد الرأسمالي والصفوة السياسية، وعدم التفاتها لما تمثله من عدوان سافر على مصالح الطبقات المفقَرة والفلاحين .
كانت سياسة فرض الإرادة لهادي يقابلها ردة فعل رافضة لسياسات الفرض من قبل القوى السياسية ذات النفوذ والتأثير، وكان مسلسل الأحداث يسير بوتيرة متسارعة ويسلك مسارات خارج إطار التوقعات، التي رسمتها القيادات المسؤولة عن إدارة المرحلة الانتقالية والرعاة الدوليين، وصارت تحسم على الأرض على غير ما حسمت في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، فكان الحدث الأبرز زلزال 21 سبتمبر المفاجئ لكل الأطراف والخارق للعادة على حد وصف المبعوث الأممي جمال بنعمر([8]).
ثورة 21سبتمبر وسقوط صنعاء بيد أنصار الله كانت بمثابة تصفية لما تبقى من نفوذ سعودي في اليمن، أطاحت بأهم أوراقها ورجالها الأقوياء؛ أسرة الشيخ عبد الله الأحمر فقدت عناصر ومصادر قوتها في الهضبة الشمالية، والجنرال محسن نفذ بجلده بعد أن خسر آخر قلاعه العسكرية في العاصمة صنعاء، الشيخ عبد المجيد الزنداني سلم قلعته (جامعة الإيمان) هو الآخر وغادر هو وطلابه بعد مناوشات بسيطة إلى مكان مجهول قبل أن يظهر في السعودية، شيوخ القبائل أصبحت تشك في ولائهم، وشرعت في تقليص هباتهم عما كانت عليه فأخذوا ينصرفون عنها ويقبلون على القوى الجديدة لا سيما أنصار الله.
ورغم توقيع القوى السياسية لوثيقة السلم والشراكة لم تتحسن الأوضاع، وظلت الأزمة تتصاعد إلى أن قدّم عبدربه منصور هادي وخالد بحاح (رئيس الوزراء) استقالتيهما؛ لتعود الأزمة السياسية إلى نقطة الصفر وتزيد من تعميق الانقسام السياسي القائم، وتدخل البلاد في فراغ سياسي وجولة جديدة من الحوارات الموفنبيكية لم يوقفها إلا إعلان الرياض حربها العدوانية على اليمن.
السياق العالمي الراهن يمر بمرحلة انتقالية تعيد تشكيل هيكلة النسق الدولي، المتميز ببروز لاعبين دوليين متعددين، مثل الصين الشعبية وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي، كما يتميز بتراجع هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي ومنطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية الملعب الذي تجري على أرضه معظم مخاضات وصراعات التشكل الجديد، كونها منبع الطاقة وفيها أهم الموانئ والممرات والمضايق البحرية الاستراتيجية.
وعن الخطوط العريضة لمستقبل الشرق الأوسط يقول ريتشارد.آن. هاس (رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي): "إنها تنبع بشكل طبيعي من نهاية عصر الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط وبروز لاعبين جدد وقوى جديدة تتنافس من أجل التأثير، ولكن الولايات المتحدة ستظل تحتفظ بتأثير أكبر في المنطقة من أي قوة خارجية أخرى"([9]).
عقيب سقوط السوفييت، وحرب الخليج الأولى تخلصت الولايات المتحدة من عقدة فيتنام، وسيطر على سلوكها نزعةٌ إمبراطورية وشعور بالتفوق جرأها على خوض مغامرات عسكرية وحروب خارجية والتدخل في الشؤون الدولية وتجاوز الساحة الوطنية، واعتماد الحلول العسكرية في أفغانستان ثم غزو العراق التي يعتبرها هاس سبب نهاية العهد الأمريكي.
كانت نتيجة هذا التوسع و التمدد الإمبراطوري إنهاك قدرات الولايات المتحدة واستنزافها اقتصادياً، وتنامي مشاعر النقمة والعداء لها، وارتفاع كلفة استمرار بقائها في أفغانستان والعراق بما يفوق قدرة الاقتصاد الأمريكي على التحمل، إضافة إلى تزايد ضيق الشعب الأمريكي من الحروب الخارجية، كلها عوامل فرضت على الإدارة الأمريكية مراجعة سياستها في الشرق الأوسط، والخبرة التي خرجت بها الولايات المتحدة من ورطتها في العراق وأفغانستان أن الاستغلال المباشر للقوة الأمريكية لم يحقق مصالحها في المنطقة، و فشل في إدماج الشرق في الزمن الأمريكي، وتضررت سمعتها على نحو كبير، ومشاهد الدمار والدماء والهمجية في سلوك الجندي الأمريكي التي تنقلها الفضائيات ووسائط الميديا كانت توسع دائرة النقمة والسخط ضد الوجود الأمريكي .
من جهة أخرى دشن الرئيس الروسي بوتين مشروعه الموسوم بـ (عودة روسيا إلى الشرق الكبير)، لاسـتـعـادة نفوذها السياسي والاقـتـصـادي والعسكري فـي منطقة الشرق الأوسط، ومزاحمة الولايات المتحدة تدريجياً، "فبدأت في التفاعل السياسي النشط في المنطقة، وسعت للانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وتحالفت مع الدول المعارضة لسياسة الولايات المتحدة كسورية وإيران، واقتربت من دول حليفة للولايات المتحدة كمصر. كما أعادت روسيا وجودها العسكري في سورية وإيران وليبيا، والمياه الدولية والإقليمية القريبة؛ بتحريك أسطولها البحري في تلك المنطقة، ونجحت روسيا في فتح أسـواق جديدة في الشرق الأوسط للأسلحة والبضائع الروسية بأسعار تنافسية، خصوصاً مع السعودية وإيران وسورية، وحتى مع إسرائيل. ووقفت روسيا إلى جانب النظام السوري في حربه ضد التنظيمات الإرهابية، من أجل تأمين مصالحها في ميناء طرطوس السوري"([10]).
الصين هي الأخرى - مع توسع حدة الصراع بعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وتركيز الاستراتيجية الأمريكية الجديدة على الصين بهدف تطويقها - باتت ترتفع أصوات صينية فيها بضرورة مغادرة السياسة الخارجية لبلادهم مربع الحياد السلبي، ومزاحمة أمريكا على موقعها كقوة وحيدة مهيمنة على الشرق الأوسط، فكما يعتقد الباحث الصيني (لي وي تيان) الصين أضحت في حاجة ملحة لاستكمال التحول من قوة إقليمية آسيوية إلى قوة عالمية؛ وهنا ينبغي أن تلعب الدبلوماسية الصينية دوراً لأخذ زمام المبادرة؛ لتشكيل نمط سياسي ودبلوماسي جديد، يكفل الانتقال من الاستجابة السلبية الدبلوماسية وسياسة الانتظار في منطقة الشرق الأوسط إلى استجابة أكثر إيجابية؛ مما يستلزم القيام ببعض التفكير، وتعديل السياسات([11]).
إيران فرضت نفسها قوة إقليمية مهمة في المنطقة، لا يمكن حسم أي ملف أو قضية بعيداً عنها، وهذا فَرَض على الإدارة الأمريكية إجراء تعديلات على خارطة علاقاتها الإقليمية ونمط علاقاتها بالفاعلين الإقليمين، سواءً حلفاؤها التقليديون أو أعداؤها التقليديون.
أمام هذه الحقائق والتحولات صار واضحاً حاجة الإدارة الأمريكية لاستراتيجية جديدة تستوعب هذه المتغيرات، وسيكون على واشنطن للحفاظ على وضعها الاعتماد بشكل أكبر على الدبلوماسية أكثر من اعتمادها على القوى العسكرية، وكان خطاب أوباما في القاهرة (يونيو 2009م) إعلاناً عن هذه الرغبة الأمريكية؛ مستشارة الأمن القومي الأمريكي (سوزان رايس) قالت بصراحة أكثر: "إن هدف الرئيس هو تجنب أن تبتلع الأحداث في الشرق الأوسط كل أجندة أعمالنا كما كانت عليه الحال مع الرؤساء قبله"([12]).
الاستراتيجية الأميركية الجديدة تقوم على إعادة صياغة وتشكيل الشرق الأوسط بطريقة جديدة، وليس الانسحاب منه؛ بمعنى الميل إلى إيجاد تسوية معينة ترتكز على قاعدة تخفيف درجة الانخراط التدخلي وفق النمط الذي كان يجري به؛ والانتقال إلى نمط أكثر جدوى يجعل ميزان الربح مائلاً لصالح الطرف الأميركي ويبعده عن المغارم([13]).
خلاصة التحولات والأحداث إقليماً وعالمياً أدت إلى خلق قناعات أساسية بين أوساط مؤسسات صناعة القرار في الدول الكبرى تتعلق بالشرق الأوسط أهمها:
هل هي محظ صدفة أن يتزامن انطلاق عاصفة الحزم على اليمن عشية الخميس 26 مارس الماضي، مع انطلاق جولة المحادثات الإيرانية مع مجموعة (5 + 1) في مدينة لوزان السويسرية والتي انتهت بتوقيع اتفاق إطاري في 2/4/2015م.
ما أهمية هذا الاتفاق؟ وماذا يعني للفاعلين الإقليميين؟ وما هي تداعياته وانعكاساته على الصراع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط؟
الصحفي الأمريكي (توماس فريدمان) وصف الاتفاق بـ "الزلزال الجيوسيــــــــــــاسي"
- وبحسبه - فإن تأثيرات اتفاق أميركي - دولي - إيراني على المنطقة قد تفوق وقع كامب ديفيد والثورة الإيرانية معاً في إعادة ترتيب الشرق الأوسط؛ فالاتفاق إنعطافة سياسية سيكون له تداعيات كبيرة على التوازنات الإقليمية والملفات الساخنة، وفي إعادة صياغة المنطقة وتسييل خارطة التحالفات السياسية وعلى مجمل الأوضاع.
التحولات الإقليمية منذ سقوط بغداد 2003م في محصلتها أدت من غير قصد إلى تزايد النفوذ الإيراني، وبزغت إيران كوريثة للنظام في العراق، إذ ظل العراق حتى سقوطه تحت الاحتلال الأميركي هو الطرف العربي الوحيد في معادلة توازن القوى مع إيران، ثم جاء الاحتلال الأميركي لهذا البلد العربي، وتمدد النفوذ الإيراني إليه تحت ظلال هذا الاحتلال ليخرجه من المعادلة تمامًا ما جعل إيران الطرف المهيمن في الإقليم([15]).
نجاح إيران في فرض نفسها قوة إقليمية، حملت الدول الغربية على تسريع صياغة أجندة هذا التحول المستجد في السياسة وفق رؤيتها ومصالحها، وتوج ذلك بتوقيع اتفاق لوزان النووي.
الاتفاق النووي يتعدى كونه اتفاقاً تقنياً محضاً فهو اعتراف غربي بإيران قوة نووية، وشريكاً أساسياً في ترتيب أوضاع الإقليم، وإدارة الملفات الساخنة بما يعظم من نفوذها الجيوسياسي، ويحقق لها جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية، تساعدها في الخروج من قفص العزلة الدولية المفروض عليها، وتذويب الجليد الذي ظلّ لعقود يعكر العلاقات بين إيران والولايات المتحدة والغرب.
كما أن رفع العقوبات الاقتصادية وإلغاء الحظر على المصرف المركزي وعلى سوقها النفطية والسماح لإيران بالعودة إلى النظام المالي العالمي بما يشمل كافة العمليات المصرفية وعودة الاستثمارات الخارجية المباشرة لتتدفق إلى إيران بما فيها استثمارات شركات النفط الأجنبيّة وشركات إنتاج السيارات، والتي ترغب في استعادة مكانتها في تطوير الصناعة الإيرانية - دعم احتياطي البنك المركزي البالغ حالياً نحو 62 مليار دولار أمريكي، وكان يفوق (100) مليار دولار قبل العقوبات؛ ومن شأن ذلك أن يوفر الدعم والحماية للنقد الوطني واستعادة قيمته السابقة، حيث كان الدولار الأميركي يعادل (12) ألف ريال([16]).
قبل عاصفة الحزم كانت السعودية تمر بمرحلة مفصلية من التحولات على المستوى الداخلي والإقليمي، هزت ركائز حكم آل سعود الثلاثة: الوهابية، النفط، أمريكا؛ فأمريكا باتت شبه منفصلة عن الشرق الأوسط؛ وهبوط سعر النفط الذي يوفّر معظم عائدات الحكومة السعودية و قصور النمط الاقتصادي القديم بات عاجزاً عن إعاشة شعب متكاثِر وعديم الإنتاجية؛ والتحالف مع الظلاميين يجلب تهديدات؛ كونهم يوفّرون للجهاديين سنداً فكرياً، ولأنهم باتوا يشكلون عقبة حتى أمام إصلاحات اجتماعية متواضعة لا بدّ من أن تكون جزءاً من أي محاولة لفطم البلاد عن النفط وبناء اقتصاد أكثر إنتاجية([17]).
حدث هذا في سياق مرحلة انتقالية لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ووضع إقليمي مضطرب عقيب ثورات الربيع العربي، و تفكك دول إقليمية قوية مثل العراق وسوريا، وتراجع الدور المصري، وانسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق وأفغانستان، وتقارب إيراني - أمريكي وغربي أطلق يد إيران في المنطقة، وفراغ إقليمي تتسابق القوى الإقليمية على ملئه، وأخيراً التحول السياسي الذي حدث في اليمن بسقوط آخر أوراق السعودية، و تحول أنصار الله فاعلاً رئيساً، وسيطرتهم على صنعاء، ووصول طلائع اللجان الشعبية إلى مشارف باب المندب وعدن بعد هروب عبدربه منصور.
تحولات زلزالية رفعت درجة استشعار الخطر لدى الرياض لتتجاوز المؤشرات الحمراء، عبّرت عنها في شكل تحركات تصعيدية تسابق الزمان لمواجهة الوضع الإقليمي الذي أصبح يعمل لغير صالحها، ولعل أكثرها جرأة كانت عاصفة الحزم التي أقدمت عليها السعودية لإعادة التوازن الإقليمي المختل، وخلق إطار إقليمي يتميز بأقل قدر من التهديد الخارجي - كما تتصوره -، والحصول على مكانة متميزة في النسق الدولي.
تتلبس السعودية مشاعر قلقة، من أن ثقة الغرب بالاعتماد عليها كحليف استراتيجي ووكيل حصري يمثل مصالح الغرب في المنطقة، قد اهتزت بعد الهزائم المتتالية لمشاريعها في المنطقة، في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وتراجع نفوذها في مقابل ميل كفة التوازن الجيوسياسي لصالح تغلل النفوذ الإيراني، وخروج العراق من معادلة التوازن الإقليمية وتحوله من حاجز صد إلى منطقة وثب للنفوذ الإيراني.
منذ صعود (باراك أوباما) إلى السلطة في واشنطن العام 2009م، طرأ نوع من الفتور على التحالف السعودي - الأميركي، فالمملكة العربية السعودية ومعها دول الخليج تعتقد أن الحليف الأمريكي أدار ظهره لهم، وتتهم إدارة أوباما بالأنانية وتجاهل مصالحهم والتنصل عن تعهدات الحماية الأمنية لدول لخليج بداية من (الربيع العربي) مروراً بالأزمة السورية، والانسحاب من العراق، وصعود نجم أنصار الله الحوثيين في اليمن - الخصوم التاريخيين للمملكة - والانفراجة التي طرأت على العلاقة الإيرانية الغربية والأمريكية. وكان الاتفاق النووي بين إيران والغرب العام 2015م دليلاً على التغير العميق والحاد في نظرة واشنطن إلى المنطقة، بحيث لم تعد طبيعة التحالف السعودي -الأميركي، ذلك الممتد منذ (اتفاقية كوينسي) في العام 1945م خلال اللقاء الشهير الذي جمع الرئيس الأميركي الأسبق (أيزنهاور) مع الملك السعودي المؤسس عبد العزيز على ظهر البارجة (كوينسي) في البحيرات المرة المصرية، على حالها السابقة([18]).
وعلى ما يبدو، لم يعد لدى الأمريكان رغبة في لعب دور الشرطي الإقليمي، ويفكرون جدياً نحو التحول إلى لعب دورٍ مساعد في المنطقة بدلاً من الدور القيادي والتدخل المباشر، بما يعني أن توكل مهمة فرض نفوذ الولايات المتحدة لقوى إقليمية ووكلاء محليين، وهذه الفكرة كانت من ضمن الأشياء التي طرحها الرئيس أوباما في مقابلته مع (توماس فريدمان) يقول: "الحوار الذي أريد القيام به مع الدول الخليجية يتضمن أولاً وقبل كل شيء الإجابة على سؤال كيف يمكن لهم بناء قدراتٍ دفاعية أفضل وأنا أرغب في رؤية كيفية الوصول لهذا التعاون بشكل رسميٍ أكثر مما هو الوضع عليه الآن. ويمكن أيضاً المساعدة في بناء إمكاناتهم بحيث يكونون أكثر ثقة بقدرتهم على حماية أنفسهم من العدوان الخارجي"([19]).
وأكثر ما يقلق السعودية أن تهيئ الأحداث لإعادة إحياء استراتيجية الركيزتين التوأمين التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون، ويستفزها فكرة أن تعود حليفاً من الدرجة الثانية، وتسعى حالياً بكل الوسائل لتصحيح الاختلال ومنع تطور الأوضاع أكثر،([20])منها محاولة إعادة العلاقة إلى سابق دفئها، وإغراء الولايات المتحدة بالعدول عن استراتيجيتها الجديدة بتخفيف درجة الانخراط المباشر، وقد عبر الأمير السعودي محمد بن سلمان عن هذه الرغبة في مقابلته مع (الإيكونوميست) بقوله "على الولايات المتّحدة أن تدرك أنها الرقم واحد في العالم، وأنه لزام عليها التصرّف بموجب ذلك، وكلّما عجّلت أمريكا في العودة إلى المنطقة ولو بتدخل ميداني كان ذلك أفضل"([21]).
وكرد فعلٍ على ما يعتقدونه خذلاناً أمريكياً ترتفع الأصوات الخليجية التي تنادي بضرورة تبني سياسات أكثر استقلالية، ومغادرة الاعتماد الكلي على المظلة الأمنية الأميركية، فهذا الخيار ساهم في إخراجهم من معادلة التوازنات الإقليمية وسهل لإيران أن تستفرد بالمعادلة، والتحول للذات الرئيسية الفاعلة ومغادرة مشاعر التهديد المستمر".([22])
عاصفة الحزم تعد من مصاديق هذه السياسة بعد أن فشلت جهود السعودية لحث الولايات المتحدة على التدخل المباشر بتوجيه ضربة عسكرية سواءً في سوريا أو في اليمن، فهي لم تعد راغبة بالتدخل المباشر، ولا تريد أن تقوم في هذه الفترة بالذات بعمل يفسد إتمام الاتفاق النهائي مع إيران؛ وفي ذات الوقت تريد طمأنة حلفائها التقليدين؛ فكانت هذه التسوية في سياق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بتقاسم الأعباء وتوزيع الأدوار؛ بحيث يتحمل حلفاؤها مسؤوليتهم ولا ينتظرون أن تخوض أمريكا حروبهم مباشرة مع التزامها بتقديم كافة التسهيلات اللوجستية والسياسية وتوفير الغطاء الدولي وصفقات السلاح.
وعن طبيعة الدور الأمريكي صرح عادل الجبير في مقابلة مع" cnn"الأمريكية عندما كان سفيراً في الولايات المتحدة الأمريكية: بأن "السعودية ظلت تناقش مشكلة اليمن مع الولايات المتحدة لعدة أشهر، وأنهم على تنسيق وتشاور مستمر مع البيت الأبيض".
ومن جهة أخرى هي رسالة لاستعادة ثقة الغرب وإثبات أنها فاعل إقليمي، وأن ترتيب شؤون المنطقة لن يحسمها أي توافقات إقليمية تفتقد لإذن سعودي خليجي، وسنبيّن لماذا كانت اليمن المكان الأنسب للسعودية لتوجيه هذه الرسائل.
الاتفاق النووي بين إيران والغرب، هو كما وصفه توماس فريدمان "زلزالاً جيوسياسياً" قد يعيد صياغة الشرق الأوسط وخارطة العلاقات والتوازنات الجيوسياسية. ومن المنظور السعودي يمثل تهديداً مباشراً لنفوذها الإقليمي الذي يتعرض بالأساس لتحديات إيرانية، مع توسع محيط دائرة نفوذها؛ إذ أصبحت تهددها في حدائقها الخلفية والأمامية، وتشكل حزاماً يخنق المملكة في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين، وفي هذا السياق جاء الاتفاق بما ينطوي عليه من تداعيات لجهة إطلاق يد إيران في المنطقة؛ يصف الأمير السعودي محمد بن سلمان الأوضاع بـ "السيّئة إلى حدّ أنها لا تكاد يمكن أن تصير أسوأ"([23])
المملكة العربية السعودية تشعر بأنها مقيدة إلى حدّ ما في كبح جماح السياسة الخارجية الإيرانية في قضيتين كبيرتين على الأقل؛ هما الاتفاق النووي الإيراني الغربي، والدور الإيراني في العراق، وقد حسمت القضية الأولى مؤخراً من دون مساهمة مباشرة من السعوديين؛ في حين يشكّل الدور الإيراني في المنطقة تحديًا أكبر في المستقبل القريب بعد ترحيب القوى الغربية بتدخل طهران في العراق، وقد يتعزّز دور إيران مع إعادة اندماجها مرَّةً أخرى في المجتمع الدولي.([24])
ويفتح شهية النظام الإيراني نحو مزيد من التغلغل والتدخل في شؤون الدول الخليجية والعربية، واستعادة دورها القديم -شرطي المنطقة- قبل الثورة، ويؤثر على نمط علاقة التحالف الأمريكي السعودي الذي كان قائماً على أساس أن السعودية حليفها الأوحد والأفضل.
يعتقد مراقبون أن الاتفاق أوقع دول الخليج في مأزق استراتيجي، أو كما يسميه البعض "الانكشاف الاستراتيجي" وأبان أنها غير جاهزة لأي مفاجأة تطرأ على العلاقات والتوازنات الإقليمية أو على تراجع أولويات أمريكا في الشرق الأوسط.
كان الرهان الخليجي قائمًا على استمرار حالة العداء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية؛ وعلى هذا الأساس كانت تعتمد بشكل استراتيجي على الاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة لحماية أمنها وتحقيق الردع والتوازن الإقليمي في مواجهة إيران.
لم تفلح جهود السعودية في ثني الولايات المتحدة والدول الخمس عن توقيع الاتفاق ولا في إشراط الاتفاق بالملفات الجيوسياسية الشائكة أو في فرض نفسها جزءاً من تلك المفاوضات مع إصرار إيران أن المحادثات يجب أن تكون نووية خالصة ورفضها لربطها بأي ملفات أخرى.
وكالة (رويترز (نقلت عن مصطفى العاني من مركز أبحاث الخليج في دبي؛ أنهم لا يعارضون المحادثات الإيرانية الأمريكية، لكن لدينا مخاوف ضخمة من أن الأمريكيين يمكن أن يقدموا تنازلات للإيرانيين من شأنها تقويض أمننا، ولن تكون مقبولة بالنسبة لنا - وعلى حده - يجب أن نكون جزءاً من تلك المفاوضات. لا نريد أي مفاجآت. نريد أن نكون شريكاً وأن تكون مصالحنا ممثلة.
المفاوضات وضعت إدارة أوباما أمام مهمتين عليها انجازهما في ذات الوقت؛ فمن جهة أوباما بحاجة لإنجاز الاتفاق مع إيران، وفي ذات الوقت طمأنة حلفائه في الخليج.
دافع (أوباما) في مقابلته التي أجراها معه الصحفي (توماس فريدمان) عن خيار إدارته هذا بأن نجاح إيران في تحقيق الاختراق التكنولوجي مع وجود الإجماع القومي عليه يلغي القوة العسكرية كخيار لوقف البرنامج، ويحاجج أنصار إدارته أن الاتفاق سيفتح آفاقاً جديدة في العلاقة مع طهران، ويبعث على التفاؤل بتغير سياسات إيران الإقليمية وتعزيز زعمائها المعتدلين وإعادة تأهيل ودمج إيران في المجتمع الدولي وغيرها من المعطيات التي يقرأ فيها فريق من الخبراء مؤشرات على ما يفترضونه نهاية عصر أمريكا في الشرق الأوسط.
يعتقد الخليجيون أنهم ارتكبوا خطأً جسيماً بترك العراق فريسة سهلة للنفوذ الإيراني "ربما كان ذلك نتيجة قناعة بأن واشنطن لن تسمح بوجود مثل هذا النفوذ في بلد عربي على حسابها وحساب حلفائها العرب".([25]) ثم فوجئوا بأن للولايات المتحدة حسابات لا تتطابق بالضرورة مع حسابات الخليجيين؛ ومن ثم كانت المغامرة العسكرية التي تزعمتها السعودية ضد اليمن - أو واحد من محركاتها - لمنع تكرار هذا الخطأ.
ومن متابعة الجدل الخليجي المرافق للعاصفة يظهر هذا العدوان الصارخ على اليمن كتجلٍ للصراع السعودي الإيراني لإعادة التوازن الإقليمي المختل، وتوجيه رسالة واضحة: أن ترتيب شؤون المنطقة لن يحسمها أي توافقات تتجاهل السعودية والخليج ومصالحهم الاستراتيجية.
يقول الباحث والمحلل الخليجي (عبد العزيز الصقر (إنّ تحرك السعودية لوقف امتداد نفوذ إيران إلى حدودها الجنوبية عبر ميليشيا الحوثيين في اليمن جاء رغبة منها في تفادي الوقوع في الخطأ الاستراتيجي بترك العراق يقع تحت النفوذ الإيراني، فأفسحت المجال أمام إيران لمحاصرتها من حدودها الشمالية.([26])
وعن علاقة عاصفة الحزم بالاتفاق النووي يقول خالد الدخيل أن هناك شبه إجماع أن انطلاق عاصفة الحزم قبل أيام من إعلان الاتفاق النووي مع إيران كان خطوة استباقية محسوبة للإمساك بتداعيات هذا الاتفاق على الجزيرة والخليج.[27]
منذ صعود الملك سلمان اتخذ سياسات تبدو مغايرة للسياسات التقليدية لسابقيه، تتميز بالجرأة والمغامرة والتشدد والتدخل المباشر كما يعتقد بعض المراقبين؛ وثمة من يعتقد أنها استمرار لسياسة سابقيه ولا تعبر عن تغييرات جذرية إنما تغيرت الاستجابة والأدوات لتغير التحديات والتهديدات؛ ويتفق على أن المملكة تتجه لإعادة صياغة دورها الإقليمي.
ومن التفاسير المعيارية لهذا النهج المُغامِر أنه ينبع من شعور الرياض بالإحباط إزاء ما تعتبره انسحاباً أميركياً من الشرق الأوسط، وخاصة تواطؤ واشنطن الضمني إزاء سلوك إيران العدواني بعد الاتفاق النووي. ([28])
كما تكشف عن قلق حيال مستقبل الأسرة الحاكمة والتحدّيات والصراعات الداخلية على وراثة الحكم بين الجيل القديم والجيل الجديد من الأمراء.
الدولة السعودية ليست دولة بالمفهوم الحديث "تُشتهَر بتشديدها على السياسات الأسرية والقبلية أكثر مما تُشتهر بنضوجها المؤسّسي"([29])، فهي أقرب إلى أن تكون شكلاً من أشكال التضامنات العصبوية ما قبل الدولتية، وتقوم على التحالف "الكاثوليكي" بين أسرة آل سعود ومتعهدي المذهب الوهابي، واستفراده بتملك أدوات القهر المادية والمعنوية، ولا زال هذا التحالف هو المعرف للوحدة السياسية للدولة السعودية.
في مثل هذا النظام تعلب القيادة دوراً جوهرياً في تشكيل وصياغة توجهات السياسة الداخلية والخارجية وتحديد أولوياته؛ ويده مطلقة في اختيار الطاقم الإداري والسياسي المعاون.
بدأ العاهل السعودي الجديد ولايته بإصدار العديد من الأوامر الملكية حملت تغييرات كثيفة في بنية السلطة، وُصفت بأنها ربما تكون الأكبر في تاريخ المملكة؛ ليس فقط في الحكومة ولكن في العديد من المناصب المفصلية بداخل المملكة، وفتحت الباب للجيل الثاني - الأمراء من أحفاد الملك المؤسس - فأطاح بولي العهد مقرن بن عبد العزيز وعين بدلاً عنه محمد بن نايف، وتم تعيين ابنه محمد بن سلمان ولياً لولي العهد.
استهدفت قرارات الملك سلمان التمهيد لابنه محمد، وتصفية مراكز النفوذ التي بناها الملك عبد الله لتهيئة الطريق لابنه متعب للوصول للملك، فأعفى الأمير مشعل بن عبد الله من إمارة مكة، وأعفى الأمير تركي بن عبد الله من إمارة الرياض، وأقال ستة وزراء ممن عينهم الملك عبد الله قبل وفاته بشهر، وأعفى خالد التويجري رئيس الديوان الملكي السعودي - المثير للجدل داخل الأسرة الحاكمة وصاحب التأثير الكبير على الملك عبد الله-، ورؤيته الإصلاحية والتحديثية.
أهم ملامح السياسية الجديدة لسلمان هي الاتجاه لقيادة الإقليم؛ فبعد الفراغ الذي خلفه تراجع دور العواصم التقليدية لقيادة النظام العربي (القاهرة، بغداد. سوريا) نتيجة للأوضاع الخاصة التي تمر بها هذه البلدان وملابسات أخرى، تتطلع السعودية لتزعم الإقليم وقيادة العمل العربي رغم أنها ليس لها المجد التاريخي للدول السابقة وتعتمد بدرجة أساسية على رصيدها المالي لشراء تحالفات سياسية وعسكرية.
الكاتب السعودي (تركي الدخيل (يفسر هذا التطلع أن السعودية هي القوة الوحيدة المؤهلة لمواجهة إيران، في ظل غياب أدنى مؤشر على تحرك عربي لمواجهة هذه الحالة الشاذة والخطيرة. والأكثر إثارة للدهشة أن بعض العرب، لاسيما بعض من ينتمي لـ (التيار القومي العربي)، بات فجأة يتفهم الدور الإيراني انطلاقاً مما يسمى توازنات القوة والمصلحة. مصر تحاذر الاصطدام مع إيران، ومرتبكة أمام الوضع في سورية. الأردن محشورة بين إسرائيل وسورية والعراق. والمغرب العربي يبدو بعيداً عمّا يحدث في المشرق.([30])
وفي سبيل المواجهة مع إيران وإمالة كفة الميزان لصالحها اتجهت المملكة لتأسيس تحالف سني يعيد للسياسية الخارجية بعدها الأيديولوجي على أساس صياغة جديدة للقومية العربية بتحويلها إلى قومية سنية([31]) تتعاطى مع السنة على مستوى المنطقة "أمة لا مذهباً"، وقد نشطت المملكة على عهد سلمان لتقريب دول مثل مصر وتركيا وباكستان، واستخدام هباتها المالية في شراء تحالفات مع لاعبين صغار يمكن استغلالهم مثل السودان وإريتريا. وكلّما زاد عدد الحلفاء الذين تجمعهم المملكة، زادت قدرتها على المحافظة على مواردها واشتدّت مطالبتها واشنطن بمزيد من الاهتمام.([32])
أثار تنصيب محمد بن سلمان ولياً لولي العهد جدلاً كبيراً داخل الأسرة الحاكمة، ومعارضة من قبل أبناء عبد العزيز الذين يعتقدون أنه تجاوزهم بدون حق، وتجاوز أعراف ما يسمى "هيئة البيعة".
ويعتقد على نحو واسع أن محمد بن سلمان هو صاحب التأثير الكبير على أبيه الملك التسعيني، بل يعتقد أنه الملك الفعلي الذي يدير البلد منذ صعود أبيه إلى الملك بحسب الإيكونيميست إن بن سلمان يتصرف كما لو أنه الملك الفعلي، يتحدّث مستخدماً صيغة المتكلِّم كما لو أنه الملك، مع أنه الثاني في سلّم وراثة الحكم. فطوال خمس ساعات لم يرِد اسم الملك سلمان سوى مرّة، بينما لم يرد اسم ابن عمّه وليّ العهد الأمير محمّد بن نايف أصلاً، مع أنه مكلَّف بالأمن الداخلي وربما ينتظر بفارغ الصبر([33]).
استغل محمد بن سلمان قربه من أبيه لتجميع أهم مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية بيده، ومراكمة سلطات استثنائية فهو إضافة إلى موقعه ولي ولي العهد يشغل منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ورئيس مجلس إدارة أرامكو، وظل رئيس الديوان الملكي إلى أن تم تعيين أحد المقربين منه.
يعتبر محمد بن سلمان عراب عاصفة الحزم؛ وقد استغلها لحسم الجدل حول صعوده السريع ولإطلاق موجة من الشعور الوطني داخل السعودية تقدمه في صورة البطل القومي وتصوره نسخة أخرى من الملك المؤسس، ومن جهة ثالثة لفت أنظار الدوائر الغربية والأمريكية إلي الأمير الصاعد بقوة، والرجل الجريء القادر على مواجهة المخاطر التي تعصف بالمنطقة.
سقوط صنعاء بيد أنصار الله كان بمثابة تصفية للنفوذ السعودي في اليمن، فآل الأحمر قيادات مستهلكة وغير مرغوبة لمعظم اليمنيين؛ فوق أنهم فقدوا أهم مرتكزات نفوذهم في الهضبة الشمالية - مصدر الشرور بالنسبة لنظام الرياض -، والجنرال العجوز (علي محسن الأحمر) خسر جنوده وبدد قواته في حروب صعدة وما تلاها من حروب، وفقد آخر قلاعه العسكرية (الفرقة الأولى مدرع) التي كانت تجثم على صدر العاصمة صنعاء وتحصي أنفاسها، وأصبح كأسدٍ منزوع المخالب والأسنان؛ كل هذا في وقت أصبح عليهم أن يلعبوا في ساحة لم تعد كما كانت ساحة مغلقة عليهم بعد أن احتلها منافسون شرسون و أشداء.
حزب الإصلاح حليف ثقيل الوطأة وغير مأمون الجانب وقِبلته منذ 2011م نحو قطر وتركيا. كما أنه خسر أهم عوامل قوته: القبلية والعسكرية، ويمكن أن يكون فاعلاً من فاعلين، في بعض مناطق الوسط لكنه لن يكون قادراً على المنافسة على الهضبة الشمالية وغير مرحب به في الجنوب، الحراك الجنوبي منقسم على ذاته وتتناقض أجندته مع أجندة الرياض.
السعودية تائهة وحائرة جداً في الإمساك بخيوط اللعبة من جديد، وتستحضر تجربة العراق الكارثية عليها، وتخشي في ظل خرائط التوازنات التي فرضتها ثورة 21 سبتمبر من تكرار تجربة العراق في اليمن، لاسيما وأنه تزامن مع سياقات إقليمية ودولية مقلقة للرياض.
غير الخصومة التاريخية؛ ترى الرياض أن التمكين السياسي لـ (أنصار الله( ونجاحهم في اليمن يلهم المجموعات الشيعية في السعودية ويحفزهم على مقاومة التمييز والتهميش الذي يمارسه عليهم النظام، كما تنظر لـ (أنصار الله( جماعة مسلحة على حدودها الجنوبية تربطها علاقة قوية بإيران، وتمكينهم يعني تمكين إيران من التحكم في ثلاثة مخانق مائية تتحكم في تجارة النفط: باب المندب، ومضيق هرمز، وقناة السويس، وتعتقد أن سيطرة أنصار الله على صنعاء جاءت بدفع إيراني، ويبنون مقاربتهم هذه على أساس أنها ردة فعل من إيران على الإنهاك الذي تسببت فيه الرياض - من وجهة نظر إيرانية - لإيران في سوريا وتخفيضها أسعار النفط؛ فكان الرد الإيراني بتوجيه ضربه لهم في اليمن حيث خاصرتهم الرخوة.
يعبر الأمير السعودي )عبد الله بن فيصل) عن المخاوف السعودية بقوله: عندما سقطت العاصمة في يد الحوثيين في ديسمبر 2014م، تضاعفت الرحلات الجوية بين طهران وصنعاء أربع مرات بين ليلة وضحاها، وبعضها كان يحمل الأسلحة والمستشارين العسكريين لدعم الحوثيين. وبتقدمهم أكثر باتجاه الجنوب في 2015م، كان الحوثيون قد وصلوا إلى أبواب مدينة عدن آخر المعاقل الباقية للحكومة الشرعية في اليمن، حيث كانت كثير من السفارات والمؤسسات الحكومية قد انتقلت إليها بعد سقوط صنعاء، فكان يجب القيام بعملٍ ما.
ويضيف ... هناك حدود مشتركة بين السعودية واليمن بطول 1000 ميل تقريباً. أصبحت الأحداث في اليمن تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي السعودي. كان البلد الجار قد أصبح تقريباً بشكل كامل تحت سيطرة ميليشيات مدعومة وخاضعة لنفوذ إيران، البلد المعروف عالمياً بدعمه للإرهاب. هذه الميليشيات المسلحة على الحدود أصبحت تسيطر على صواريخ باليستية وقوى جوية. ([34])
المخاوف السعودية مخاوف متضخمة ومبالغ فيها، وقعت فيها ضحية لسيل المعلومات التي يقدمها خصوم أنصار الله السياسيون في اليمن، عزز منها الخطاب الإعلامي لإيران الذي كان يتعمد بعث رسائل توحي أن ما يحدث في اليمن من تدبيره وإيهام السعودية من خلال تصريحات مسؤولين رفيعي المستوى أنهم من يديرون الأوضاع في اليمن.
السيد عبد الملك الحوثي في مقابلته المنشورة في هذا العدد من المجلة([35]) ينفي أي سياقات عدائية تجاه الجيران؛ فاليمن كما يقول: "لم يكن في وضعية عداء ونزاع مع محيطه، والواقع الذي يعيشه البلد ما قبل العدوان لم يكن بحدّ ذاته يشكل أيّ تهديد لمحيطه العربي والإسلامي ولا على المستوى الدولي، فالجميع في البلد كانوا منشغلين جداً بحلّ المشاكل الداخلية الكبيرة وفي مقدمتها المسألة السياسية".
وأشار إلى أنهم كانوا حريصين أن يواكب التحرك الشعبي والتصعيد الثوري تأكيد لدول الجوار ولكل محيطنا من العرب والمسلمين أنّ تحرّك الشعب اليمني هو في حدود مطالبته بحقوقه المشروعة، واستعادة قراره وفرض حريته وليس بهدف استهداف دول الجوار.
وأضاف: "لقد أكّدنا مراراً وتكراراً أننا لسنا امتداداً لأي أجندة لصالح أيّ طرف ضد طرف آخر في محيطنا العربي والإسلامي، وأن تحرّكنا ينطلق من مبادئ واضحة أصيلة، وأن مطالب شعبنا مطالب واقعية ومظلوميته ومعاناته واضحة وليست المسألة مسألة أجندة لصالح الخارج لا إيران ولا غيرها".([36])
يذكر أنه قبل وفاة الملك السعودي )عبدالله بن عبدالعزيز) كان هناك وفد من أنصار الله يزور السعودية بهدف مناقشة المخاوف بين الطرفين واقتراح المعالجات المناسبة وكان الاتفاق أن يستمر التواصل المباشر لحل أي اشكال أو توتر ينشأ والحيلولة دون وصول الأمر إلى مرحلة التصعيد، غير أن موت الملك عبدالله، وصعود الملك الجديد وسياسته التصعيدية أحبط الخطوة، وأوقف أي تواصلات مباشرة وفتح مسامعه للتقارير والمعلومات التي يقدمها خصوم أنصار الله، وعلى ما يبدو أن قرار الحرب كان قد اتخذ سلفاً، ويجري البحث عن إخراج مناسب وكان هروب هادي إلى عدن الفرصة التي انتهزتها السعودية لشن حربها العدوانية.
يتفق معظم المحللين على أن العملية العسكرية ضد اليمن تؤشر على تحول كبيرمن جانب السعودية التي فضلت استخدام الدبلوماسية والمال والدين والنفط والحماية الغربية لحماية مصالحها ونفوذها على منطقة الخليج والتحول صوب سياسة خارجية أكثر قوة، والتركيز على "توازنات القوة" بدلاً عن التركيز على "توازنات المصالح" وتوظيف القوة والتدخل العسكري كما حصل في اليمن.
والسبب في اختيارها اليمن غير كونها تنظر إليها الخاصرة الرخوة التي يثير الاقتراب منه حساسية الرياض، أنها لا تجرؤ على الدخول في مواجهة مع إيران وفشلت في إقناع أمريكا بتوجيه ضربة عسكرية لإيران أو سوريا ومحاذير كثيرة تمنعها من التدخل العسكري المباشر في سوريا، وتعتقد أن ظروف البيئة الداخلية اليمنية تسهل لهم تدخل خاطف يزيح أنصار الله وما يسمونه الجيش العائلي التابع لصالح مستغلة هشاشة مؤسسات الدولة وانقسام الجيش والانقسام السياسي والشعبي الحاد وإفلات هادي وتمكنه من الهروب إلى عدن، إضافة لوجود طبقة سياسية انتهازية لا تتحرج من العبث بالشأن العام وما يتصل به من حقوق تحفظ سيادة الوطن وتفتقر إلى استشعار المسؤولية الأخلاقية والوطنية.
من جهة أخرى البيئة الدولية والإقليمية لن تشكل عائقاً أمامها، وستوفر الغطاء الدولي اللازم؛ فالدول الغربية تنظر لليمن منطقة نفوذ حيوية للسعودية وتربط مصيره بيد الرياض، والمال السعودي والخليجي سيلعب دوراً في شراء صمت المجتمع الدولي الذي يتصرف بعقلية التاجر، والأمم المتحدة من السهل لي ذراعها، وتنتهج سياسة شبه موحدة في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط تقوم على التعامل الرخو ودائرة مفرغة من اللقاءات بلا أجندة أو سقف زمني محدد أو ملزم لجميع الأطراف.
الصين وروسيا كذلك ليس من المتوقع أن تتخذ مواقف متصلبة ضد أي ضربة عسكرية فحجم الاستثمار الصيني في اليمن لا يقارن بالإغراءات التي تمتلكها السوق الخليجية، وتعتمد الصين على السعودية لتأمين الجزء الأكبر من احتياجاتها النفطية، أما روسيا وإن كانت اليمن سوقًا خصبة لمبيعات أسلحتها؛ إلا أن الوضع في سوريا يحتل أهمية مضاعفة مقارنة باليمن لارتباط الأولى بأهم الملفات التي تتناغم مع الطموحات الروسية في الشرق الأوسط.
وقد اتخذت عملياتها العسكرية طابع الانتقام الشامل خارج أي منطق عسكري بقصد معاقبة اليمنيين وإلحاق أكبر ضرر باليمن وممارسة سياسية كي الوعي اليمني بالإفراط الجنوني في استعمال القوة وإنزال أقصى عقوبة عليه لكسر إرادة اليمنيين وإرغامهم على مطاوعة الإرادة السامية لملوك الرياض ..
وكذلك إغراق اليمن بالعناصر الإرهابية لداعش والقاعدة وتمكينهم من المال والسلاح، والتدمير الشامل للبنى التحتية لإنهاك اليمن سياسياً وخلق صعوبات اقتصادية واجتماعية مستديمة تمكنها من استغلالها في المستقبل لخنق اليمن وابتزاز أي نظام سياسي يمني قادم.
أعلنت السعودية أن هدف عاصفة الحزم هو إزاحة أنصار الله من المشهد السياسي وإبعادهم خارج المعادلة السياسية وإعادة عبدربه منصور وحكومته، غير أن "التعبئة العسكرية - كما يقول مايكل نايتس في مقاله الآنف - لتسع دول أخرى ذات أغلبية مسلمة يشير إلى الهدف الاستراتيجي الأوسع للحملة" وأن الشرعية ما هي إلا قنطرة تقنطرتها العاصفة لتحقيق أهداف أوسع وأشمل تتجاوز استعادة نفوذها في اليمن لاستعادة التوازن الإقليمي المختل لصالح إيران التي -بحسب تصور الرياض- باتت تلعب في حدائقها الخلفية والأمامية، ومحاولة التأثير على سير المفاوضات النووية الإيرانية ،واستعادة ثقة الغرب واستعراض كفاءتهم في الحرب، وتزعم تحالفات إقليمية لمواجهة إيران وحلفائها كمؤهلات للاستمرار كحلفاء جيدين ووكلاء حصريين لمصالح الغرب الرأسمالي و إقناعه بالابتعاد عن إيران، ومحاولة إقناع الولايات المتحدة بالتعجيل إلى العودة إلى المنطقة ولو بتدخل ميداني على حد تعبير محمد بن سلمان آل سعود.
يتفق النظامان السعودي والأمريكي على الانزعاج مما يتصورونه توسعاً منسقاً للنفوذ الإيراني في الإقليم عبر من يصفونهم وكلاء محليين لإيران ويعتبر اليمن بلداً مهماً لكلا النظامين؛ كونه يشرف على أهم الممرات المائية،،أيضاً لا يخفيان قلقهما من ترسانة الصواريخ الباليستية التي يمتلكها، ورغبتهما في التخلص منها، ويختلفان في كيفية مواجهة إيران وحلفائها؛ فأمريكا لم تعد ترغب في التدخل المباشر كما يتمنى الخليجيون سواء في إيران أو سوريا أو اليمن، و في إطار توزيع الأعباء والأدوار ترى أن على حلفائها الخليجين أن يضطلعوا بالمواجهة التنفيذية المباشرة وتتولى هي دور المرشد الأعلى؛ لكن في ذات الوقت يهمها إنجاز الاتفاق مع إيران وسوريا، قد يصطدمون بروسيا والصين فكانت اليمن هي المكان المناسب وفق تقديرات دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية.
([1]) موضوع الدور الأمريكي في العاصفة بحاجة إلى دراسة مستقلة، غير أن تصريحات المسؤولين تكشف أنها عضو غير معلن في تحالف العاصفة المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي برناديت ميهان صرحت أن: "الولايات المتحدة تعمل ضمن خلية تخطيط مشتركة مع المملكة العربية السعودية لتنسيق العملية العسكرية والدعم الاستخباراتي"؛ انظر في ذلك: مايكل نايتس، مساندة التدخل العسكري العربي في اليمن، معهد واشنطن؛ متوفر على الرابط:
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy
([2]) دعوى الجبير بأن عاصفة الحزم لفتح الطريق أمام المحادثات السياسية تكذبها تصريحات المبعوث الأممي السابق جمال بن عمر في إحاطته الأخيرة لمجلس الأمن التي أشار فيها أشار فيها إلى أن القوى السياسية المتحاورة في فندق موفنبيك (بعد استقالة عبد ربه منصور هادي ورئيس الوزراء خالد بحاح) كانت على وشك الوصول لاتفاق شامل ينهي حالة الفراغ القائمة، إلا أن إعلان العاصفة أعاق استكمالها.
([3]) همفري وستيفان ريختر، هل تريد المملكة العربية السعودية تقسيم اليمن؟ (ترجمة: أنيسة معيض)، وكالة الأنباء اليمنية – سبأ)، نقلاً عن: مجلة ذا جلوباليست الأمريكية،21 أبريل 2016م.
- في رد محمد بن سلمان على سؤال (الإيكونوميست) عن أهداف العاصفة، غابت تماماً مسألة الشرعية وهادي؛ وعلى حسبه فالهدف الأول لعاصفة الحزم هو: "تدمير قدرات المليشيا الجوية ودفاعاتها الجوية، وتدمير 90% من ترسانتها الصاروخية، هناك صواريخ أرض- أرض منصوبة الآن على حدودي، فقط تبعد 30 إلى 50 كيلومتراً عن حدودي، ومدى هذه الصواريخ قد يصل إلى 550 كيلومتراً، وتملكها المليشيا، وتقوم بتحركات عسكرية على حدودي، وتملك الميليشيا طائرات، ولأول مرة في التاريخ على حدودي. وهذه الطائرات مملوكة من المليشيا، وتقوم بنشاطات ضد رجالنا في عدن"؛
النص الكامل لمقابلة الأمير محمد بن سلمان مع (الإيكونوميست) متوفر على الرابط:
http://hournews.net/news-52173.htm
([4]) أحمد علي سالم، القوة والثقافة وعالم ما بعد الحرب الباردة، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 20، خريف 2008، ص120.
([5]) ندوة: اليمن بعد العاصفة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015م، ص8.
(([6] فهد المهدي، العلاقات اليمنية السعودية: المستقبل الغامض، متوفر على الرابط:
http://www.al-binaa.com/?article=2658
([7]) صادق القاضي، جغرافيا عاصفة الحزم، متوفر على الرابط:
http://www.raialyoum.com/?p= 428731-2016
([8]) انظر تصريح جمال بن عمر، متوفر على الرابط:
http://www.yafa-news.net/archives/118500
([9]) ريتشارد.ان. هاس، الشرق الأوسط الجديد. (ترجمة: مركز الشرق العربي)؛ متوفر على الرابط: http://www.asharqalarabi.org.uk/markaz/m_mutabaat-23-01.htm
([10]) سنية الحسيني، السياسة الصينية تجاه الأزمة السورية: هل تعكس تحولات استراتيجية جديدة في المنطقة؟، المستقبل العربي، العدد (440)، 2015، ص56.
([11]) نادية حلمي، التوجهات الصينية تجاه الشرق الأوسط بعد الثورات، مجلة السياسية الدولية؛ متوفر على الرابط:
http://www.siyassa.org.eg/NewsQ/2701.aspx
([12]) أحمد الكاتب، القيد الأمريكي: احتمالات بروز قيادة إقليمية في الشرق الأوسط؛ متوفر على الرابط:
http://www.siyassa.org.eg/NewsQ/4936.aspx
([13]) غازي دحمان. أميركا والشرق الأوسط.. من يغيّر من؟؛ متوفر على الرابط:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinion
([14]) مطهر لقمان، المشكلات العويصة المهددة لاستقرار المنطقة، دراسة غير منشورة.
([15]) ندوة: "اليمن بعد العاصفة"، مرجع سابق، ص3.
([16]) ميثاق مناحي، التداعيات الاستراتيجية لاتفاق الإطار النووي بين طهران وواشنطن، مركز الدراسات الاستراتيجية، جامعة كربلاء، 2015م؛ متوفر على الرابط:
http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/index.php/info-icon
([17]) أمير شاب على عجلة من أمره، مجلة المستقبل العربي، العدد (445). 2016م، ص156؛ نقلاً عن مقابلة أجرتها الايكومنست مع محمد بن سلمان.
([18]) فاسيلييف، تاريخ العربية السعودية، (ترجمة: خيري الضامن)، بيروت، دار الفارابي،2011م، ص396.
([19]) http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0MX03K20150406
([20]) ريفالا بهالا، المملكة العربية السعودية: دسائس القصر في مرحلة انتقالية، مجلة المستقبل العربي، العدد (445)، 2016م، ص143.
(([21] أمير شاب على عجلة من أمره، مرجع سبق ذكره.
([22]) ندوة: الاتفاق النووي الإيراني وتداعياته الإقليمية والدولية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2015م، ص11.
([23]) في مقابلته مع الايكومنست يدافع الأمير محمّد عن السياسة الخارجية التدخّلية التي تنتهجها بلاده وردّها المتصلّب على الإرهاب والفتن. وعندما سُئل عمّا إذا كانت أفعال المملكة تؤجّج التوتّرات الإقليمية، أجاب بأن: "الأوضاع سيّئة أصلاً إلى حدّ أنها لا تكاد يمكن أن تصير أسوأ"، وهو لا يتوقّع حرباً بكلّ تأكيد، "نحن نحاول بكل ما نستطيع تلافي مزيد من التصعيد"، يقول الأمير، لكنّ حاشيته لا ترى خياراً سوى إفشال محاولة إيران إقامة إمبراطورية فارسية جديدة (انظر: أمير شاب على عجلة من أمره، مرجع سبق ذكره، ص150)
([24]) ألكسندر متركسي، الحرب الأهلية في اليمن، صراع معقد وآفاق متباينة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015م. ص6.
([25]) خالد الدخيل، السعودية والاتفاق النووي، موقع صحيفة الحياة؛ متوفر على الرابط:
http://www.alhayat.com/Opinion/Khaled-El-Dakheel
([26]) ندوة: ازمة العلاقة الإيرانية – السعودية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2016م؛ متوفر على الرابط:
http://www.dohainstitute.org/content/0bcccc1c-f14e-430e-9ba1- d82c45586c96
([27]) خالد الدخيل، عاصفة الحزم والاتفاق النووي، موقع صحيفة الحياة، متوفر على الرابط:
http://www.alhayat.com/Opinion/Khaled-El-Dakheel
([28]) فريدريك ويري، الدور الدولي المتغير للمملكة العربية السعودية، مركز كارنيغي للشرق الأوسط 2016م؛ متوفر على الرابط:
http://carnegie-mec.org/2016/04/18/ar-pub-63414
([29]) ريفالا بهالا، لمملكة العربية السعودية: دسائس القصر في مرحلة انتقالية. مرجع سابق، ص141.
([30]) انظر: خالد الدخيل، السعودية والاتفاق النووي، موقع صحيفة الحياة؛ متوفر على الرابط:
http://www.alhayat.com/Opinion/Khaled-El-Dakheel
([31]) يتجلى الفرق بين القومية العربية وبين القومية السنية للمملكة أن الأولى تمثل رابطة شعورية وموضوعية توحيدية تقوم على وحدة اللغة والتاريخ والثقافة والمصير، كانت تطمح إلى تكوين تكتل سياسي يتجاوز عوائق سايكس بيكو وتحقيق تحالف موضوعي لمواجهة الأخطار التي تواجه الأمة العربية، وفي القلب منها الصراع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية. في حين القومية الجديدة بقيادة المملكة عبارة عن تحالفات تتعاطى مع السنة على مستوى المنطقة "أمة "لا مذهباً، ويتبنى خطاباً يشتغل على الفرز العمودي للأمة وتقويض كل السرديات الجامعة الوطنية والقومية والإسلامية. كما تنزاح في هذا الخطاب مركزية اسرائيل وتتحول معادلة الصراع العربي - الاسرائيلي في خطاب القومية العربية إلى صراع سني - شيعي، واحلال الخطر الإيراني محل الخطر = الصهيوني، و"المحتل" الذي يغتصب الأرض لم يعد الكيان الصهيوني بل الآخر المختلف طائفياً - كالمحتلين الحوثيين الذين تتهمهم باحتلال اليمن وأعلنت عاصفة الحزم لتحرير اليمن من الاحتلال الحوثي (الباحث).
([32]) ريفالا بهالا، لمملكة العربية السعودية: دسائس القصر في مرحلة انتقالية، مرجع سبق ذكره، ص141.
([33]) أمير شاب على عجلة من أمره، مرجع سبق ذكره، ص 151.
([34]) عبد الله بن فيصل بن تركي، لماذا ذهبنا نحن السعوديون إلى اليمن؟؛ متوفر على الرابط:
https://www.alkhabarnow.net/news/219962/2016/03/29
(([35] أنظر الحوار الذي أجراه الباحث مع السيد ضمن هذا العدد، ص 195.
[36])) المرجع السابق.