انقضى العام 2024 خلال فترة خفض التصعيد (الهدنة) وتحت تأثير تطورات معركة طوفان الأقصى ومشاركة اليمن في جبهات المساندة عبر مساري الحصار وقصف الكيان المحتل، وهو ما خلق تحديات مضافة أمام تنفيذ بنود الهدنة وخارطة الطريق للوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار ورفع الحصار وإعادة الإعمار ودفع التعويضات اللازمة، هكذا يبدو المشهد أمام كثير من المحللين والمراقبين وهو صحيح إلى حدٍ ما ولكنه يفتقر إلى الدقة، فبمجرد مراجعة سريعة لتاريخ الهدنة المبرمة في أبريل 2022 وحتى 7 أكتوبر 2023 بداية انطلاق طوفان الأقصى وانخراط اليمن في جبهات المساندة لم يلمس اليمنيون أي مؤشرات على صدق نية السعودية في تنفيذ أياً مما اتفق عليه في تلك الاتفاقية عدا فتح جزئي لميناء الحديدة ورحلات جوية متعثرة ابتدأت برحلتين أسبوعياً إلى مصر والأردن، تم الإيفاء برحلة الأردن بينما طارت رحلة يتيمة إلى مصر، ثم تعرضت رحلة الأردن إلى جولات من التقطع والابتزاز السعودي لترويض الجانب اليمني على قبول الحد الأدنى والدوران حول الرحلة والانشغال بها عن بقية البنود المتعلقة بمراحل تحقيق السلام الشامل.
لكن ذلك لا ينفي أن لمشاركة اليمن في معركة طوفان الأقصى كان لها ارتدادات على مسار الحل التفاوضي وتنفيذ بنود الهدنة وخارطة الطريق، فقد وجدت السعودية ذريعة للتنصل عن الوفاء بتعهداتها والتزامها نحو تحقيق السلام، تضيفها إلى سياسة التنصل والالتفاف، واستغلال عامل الزمن مع استمرار الحصار وانقطاع الموارد لخلق ظروف تعيق اليمن عن تشكيل "تهديد" لها. فيما استغلت واشنطن تلك المساندة للمقايضة بين وقفها أو استمرار مسار السلام.
في 20 رمضان 1445هـ (30 مارس 2024م) أعلن البنك المركزي في صنعاء إصدار عملة معدنية من فئة المائة ريال لحل مشكلة الفئة الورقية التالفة، مؤكداً أن الخطوة لن تؤثر على سعر صرف العملة لأنها ببساطة عملية استبدال لا غير، ما اعتبرته ما تسمى حكومة عدن التابعة للتحالف السعودي خرقاً لاتفاق الهدنة فأصدر بنك عدن في 3 أبريل 2024 قراراً يطالب جميع البنوك اليمنية بنقل مقراتها إلى عدن في غضون 60 يوماً. وهو إجراء خطير يهدد بشلّ النظام المالي المتعثر أساساً بسبب سياسات النقدية الكارثية التي اتبعها بنك عدن خلال سنوات العدوان. فقد يؤدي عدم امتثال البنوك لهذا القرار إلى اتخاذ تدابير عقابية بحقها قد تشمل عزلها عن شبكة نظام (سويفت) والشركات العالمية المقدمة لخدمات تحويل الأموال، بل وقد يصل الأمر حد إلغاء تراخيصها وهو ما سيشلّ قدرة القطاع المصرفي على إنجاز المعاملات المالية الدولية الأساسية.
رئيس الوفد اليمني المفاوض محمد عبد السلام اعتبر تلك القرارات "خطيرة يقف خلفها الأمريكي لتوريط دول كالسعودية في حرب تجويع الشعب اليمني"، كما وصفها بأنها "خطوة تخدم الكيان الصهيوني عقاباً للشعب اليمني على موقفه المساند للقضية الفلسطينية".
السيد عبد الملك الحوثي أكد أن: "استهداف البنوك في صنعاء عدوان اقتصادي، وإذا تورطت السعودية في ذلك خدمة لإسرائيل، ستقع في مشكلة كبيرة". وأطلق معادلة "المطار بالمطار والميناء بالميناء والبنوك بالبنوك"، وهو تحذير وجد صداه لدى السعودية التي ضغطت على ما تسمى حكومة عدن بالتراجع عن تلك القرارات في بداية شهر يونيو 2024.
في محاولة منه لاحتواء الصراع النقدي بين بنك المركزي بصنعاء وبين بنك عدن التابع لما يسمى حكومة عدن صرح مكتب المبعوث الأممي إلى اليمن أنه يجري مناقشات مع صنعاء وعدن لـ "تجنب انهيار اقتصادي أعمق"، وأكد أن جهود توحيد العملة اليمنية والقطاع المصرفي مستمرة.
الخطوات التي قام بها بنك عدن لم يكن ليجرؤ على اتخاذها لولا ضوء أخضر سعودي لإغراق اليمن في الأزمات وإشعال النزاعات الاقتصادية بين صنعاء وعدن لتظهر الرياض كوسيط -بين "الأطراف اليمنية"- يضغط على ما يسمى حكومة عدن للتراجع عن تلك الخطوات، من جانب آخر نعتقد أنها محاولة لقياس مدى قدرة صنعاء على الرد وتماسكها في ظل استمرار الحصار الاقتصادي، واستطلاع لتأثير تلك الخطوات على الوضع الاجتماعي الذي تراهن عليه الرياض لانهيار صنعاء دون قتال مجدداً.
خارطة الطريق:
في 23 ديسمبر 2023 أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبيرغ التزام الحكومة الوطنية في صنعاء برئاسة المجلس السياسي الأعلى وما تسمى حكومة عدن التابعة للتحالف السعودي الإماراتي بحزمة تدابير ضمن "خارطة طريق" تشمل وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وتحسين ظروف معيشة المواطنين، وأكد أن ذلك يأتي "بعد سلسلة الاجتماعات مع الأطراف في الرياض ومسقط، بما في ذلك مع رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، وكبير مفاوضي أنصار الله (الحوثيين) محمد عبد السلام".
وفي 13/5/2024 أعلن "غروندبيرغ" أنه يعمل على ثلاثة محاور لوقف الحرب اليمنية والعودة إلى العملية السياسية عبر «خريطة طريق»، المحور الأول يتعلق بمواصلة اتصالاته مع الأطراف «لإحراز تقدم في شأن خريطة طريق الأمم المتحدة، والثاني يتصل بالعمل على ما سماه «استكشاف سبل خفض التصعيد وبناء الثقة»، أما المحور الثالث، فيتعلق بـ «الاستعدادات لوقف إطلاق النار على مستوى البلاد واستئناف عملية سياسية شاملة».
رغم استجابة صنعاء واستعدادها الدائم لتنفيذ الاتفاقات إلا أن ما تسمى حكومة عدن التابع للتحالف السعودي الإماراتي مستمرة في التنصل أو بالأحرى الاستمرار في اتباع التعليمات الصادرة من الرياض وأبو ظبي. فعلى سبيل المثال بادرت صنعاء من جانب واحد بفتح طريق الخمسين – الستين في تعز( 06 يوليو 2022) وهي خطوة لم تقابل بحسن نية من الطرف الآخر، وفي 7 يونيو 2024 أعلن محافظ تعز أحمد المساوى عن فتح خط (الحوبان – سوفتل – قصر الشعب – الكمب) لمرور المسافرين، بالإضافة إلى خط (الخمسين – مدينة النور) لعبور الشاحنات ونقل البضائع. قابلتها حملات تشكيك وتخويف من الميليشيات التابعة للتحالف السعودي الإماراتي التي خسرت عائدات مادية كبيرة كانت تحصل عليها من نقاط مرور السيارات في الطرقات السابقة.
تأثير عمليات صنعاء المساندة في معركة طوفان الأقصى:
استغلت الأطراف المعادية للشعب اليمني ما يقوم به الجيش اليمني من مساندة للشعب الفلسطيني بفرض حصار على الملاحة الصهيونية والعمليات في الداخل الفلسطيني المحتل لتبرر به عدم إيفائها بالاتفاقات المتعلقة بتنفيذ خارطة الطريق التي ترعاها الأمم المتحدة، والمساومة على المساعدات الإنسانية من قبل أطراف دولية كالولايات المتحدة.
موقف الأمم المتحدة
شدد المبعوث الخاص للأمني العام إلى اليمن هانس جروندبيرغ على "ضرورة عدم جعل حل الصراع في اليمن مشروطاً بحل القضايا الأخرى"، في إشارة للعدوان على غزة واشتراط اليمن وقف العدوان عليها لوقف عملياته المساندة.
وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: أكد أنه "يجب علينا ألا ندع التطورات في المنطقة والبحر الأحمر تقف في طريق السلام في اليمن"، معتبراً أن ذلك "سيكون ظلماً فظيعاً ومأساة لشعب اليمن".
وفي خطوة اعتبرها اليمن نوعاً من العقاب لمواقفه تجاه الشعب الفلسطيني أعلن برنامج الغذاء العالمي في الخامس من ديسمبر 2023 وقف المساعدات الغذائية بحجة محدودية التمويل، جدير بالذكر أن هذا التوقف يأتي بعد تهديدات المبعوث الأمريكي إلى اليمن ليندركينج حول المساعدات الإنسانية لليمن.
وفي 10 ديسمبر 2023 اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار 2722 بتأييد 11 عضواً وامتناع 4 عن التصويت (روسيا الصين الجزائر وموزمبيق). يدين عمليات القوات اليمنية في البحر الأحمر ويطالب بوقفها.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية من عمليات المساندة اليمنية:
منذ إعلان الولايات المتحدة وقوفها الكامل مع الكيان الصهيوني إثر انطلاق طوفان الأقصى لم تأل جهداً في توفير الدعم العسكري والغطاء السياسي، وعند انخراط اليمن في جبهة المساندة وصف مبعوث الأمريكي إلى اليمن تيموثي ليندركينج تلك الجهود بأنها غير مجدية و "تقوّض جهود السلام في اليمن"، وفي تقييمه لتأثير تلك العمليات ادعى أنها "لا تقدم شيئاً للشعب الفلسطيني"وطالب بوقف الهجمات على السفن".
وفي تهديد مبطن وابتزاز للشعب اليمني أكد ليندركينج أن "المانحين سيديرون ظهورهم لليمن إذا استمرت هجمات الحوثيين، كما سيوجهون أموالهم إلى أولويات أخرى، حيث لا يتعرض المجتمع الدولي للهجوم على أرض الواقع".
واقعياً أصبحت عملية السلام مرهونة بقرار الأمريكي الذي يساوم باستمرارها مقابل وقف عمليات المساندة اليمنية للشعب الفلسطيني فقد حذر المبعوث الأمريكي صراحة من أن "المفاوضات ستكون صعبة للغاية طالما استمر الحوثيون في أعمالهم العدوانية".
وفي ديسمبر 2023 أعلنت الولايات المتحدة تشكيل عملية "حارس الازدهار"، وهو تحالف عسكري دولي يهدف إلى وقف عمليات المساندة اليمنية واعتراض الصواريخ والمسيرات اليمنية التي تستهدف الكيان الصهيوني، ومنذ 12 يناير 2024، نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية عدائية ضد اليمن، رئيس الوفد اليمني المفاوض محمد عبد السلام، أكد أنه لا يوجد أي مبرر لهذه الهجمات، وأن اليمن سيواصل استهداف السفن المتجهة نحو الكيان الصهيوني. وأكد في منشور عبر منصة "إكس" أنه "لم يكن هناك خطر على الملاحة الدولية في البحر الأحمر والعربي، والاستهداف كان وسيبقى يطال السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة".
وفي 17 يناير 2023 أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إدراج أنصار الله "باعتبارها جماعة إرهابية مدرجة بشكل خاص، ويدخل هذا الإدراج حيز التنفيذ بعد ثلاثين يوما من تاريخه"، ضمن سلسلة العقوبات الأمريكية بسبب عمليات اليمن المساندة لغزة.
موقف النظام السعودي
اعتبرت السعودية أن ما يجري في البحر الأحمر "انعكاس طبيعي لما يجري في غزة"، وعبرت عن قلقها من انزلاق المنطقة بأكملها إلى الصراع، ولكن على أرض الواقع ربطت تلك عمليات المساندة بمسار المفاوضات فماطلت في تنفيذ اتفاق الهدنة (خفض التصعيد) لكسب المزيد من الوقت والتربص لما ستفضي إليه نتائج تلك العمليات من رد الفعل الأمريكي أو الإسرائيلي، بما يدخل اليمن في دوامة من الصراع تنشغل به صنعاء عن مطالبة الرياض باستحقاقات الهدنة وفي نفس الوقت لا تملك القدرة على خوض حرب مع الرياض مجدداً.
موقف ما تسمى حكومة عدن التابعة للتحالف للسعودي الإماراتي:
في 18 مارس 2024، أعلنت ما تسمى الحكومة في عدن في بيان لها توقف خارطة الطريق الأممية لوقف إطلاق النار مع أنصار الله، "بسبب تصعيد الجماعة في البحر الأحمر وتهديد الملاحة الدولية"، رغم أن تنفيذ بنود تلك الخارطة لا علاقة لها بما يجري في البحر الأحمر أو بالعمليات في داخل فلسطين المحتلة.
بينما تسعى إلى استغلال الموقف المساند للشعب الفلسطيني لإظهار حكومة صنعاء بمظهر الجماعة الإرهابية التي تهدد أمن الملاحة والتجارة الدولية والاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا أو ما يعتبرونه المجتمع الدولي، وبالتالي تحريض التحالف (الغربي – الخليجي) لشن عدوان على أنصار الله عوضاً عن فشلهم على مدى ثمان سنوات.