هل من الممكن أن نكون شهوداً على ميلاد عام متعدد الأقطاب على المدى المنظور؟ أو على مدى عقدين من الزمن كما يشير "تقرير الاتجاهات العالمية لعام 2025، الصادر عن مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي في02 فبراير 2008، إلى أنه ينبغي توقع ظهور "نظام عالمي متعدد الأقطاب" في غضون عقدين من الزمن".
من الناحية النظرية يبدو ذلك ممكناً، ولكنه واقعياً غير ممكن الحدوث خلال الفترة المشار إليها لاعتبارات كثيرة. وأهم تلك الاعتبارات توفر عاملي القوة القادرة والمؤثرة المدعومة بالتطور العلمي والبحثي والتقني والاقتصاد القوي الحامل والمغذي لتك القوة تقنياً وبشرياً.
وحتى الآن لا تتوفر نظرية سياسية مؤطرة لفكرة التعددية القطبية. لا تزال نظرية التعددية القطبية في مراحلها الأولى من الصياغة الأولية. يحاول المفكر الروسي ألكسندر دوجين بلورة التعددية في إطار نظري متماسك وتقديمه كمشروع سياسي متماسك. وبهذا الصدد يقول دوجين:
"من وجهة نظر علمية بحتة، لا توجد اليوم نظرية تامة ومتكاملة للعالم متعدد الأقطاب. ولا يمكن العثور عليها بين النظريات والنماذج الكلاسيكية للعلاقات الدولية". وسيكون من العبث البحث في النظريات المعاصرة عن أساس نظري واضح للعالم المتعدد. فكل النظريات أو الطروحات التي ربما لامست هذا الموضوع "لم يتم تطويرها بالكامل حتى في أكثر المجالات مرونة وتركيباً -في مجال الدراسات الجيوسياسية، والتي غالباً ما تبقى وراء الكواليس في العلاقات الدولية أو يتم تفسيرها بشكل متحيز للغاية".
ومع ذلك، فإن الكثير والكثير من الأعمال المكرسة للسياسة الخارجية، والسياسة العالمية، والجغرافيا السياسية، وخاصة في العلاقات الدولية، تلامس بقدر معين موضوع التعددية القطبية. و"يحاول عدد متزايد من المؤلفين فهم ووصف التعددية القطبية كنموذج أو ظاهرة أو سابقة أو فرصة".
فخلال الفترة المنصرمة "تم التطرق لموضوعات التعددية القطبية، بطريقة أو بأخرى، في أعمال بعض اختصاصي وزارة الدفاع: ديفيد كامبف (في مقال "ظهور عالم متعدد الأقطاب")، ومؤرخ جامعة ييل بول كينيدي (في كتاب "صعود وسقوط القوى العظمى")، والجيوسياسي ديل والتون (في كتاب" الجيوبوليتيكا والقوى العظمى في القرن الحادي والعشرين، تعدد الأقطاب والثورة من منظور استراتيجي")، العالم السياسي الأمريكي ديليب هيرو (في كتاب" بعد الإمبراطورية. ولادة عالم متعدد الأقطاب") وغيرها". ويعتقد دوجين أن البريطاني بيتيتو فابيو، كان الأقرب لفهم جوهر التعددية القطبية، وقد حاول في كتابه" حوار الحضارات كخطاب سياسي عالمي: بعض التأملات النظرية "بناء بديل جاد ومبرر للعالم أحادي القطب على أساس المفاهيم القانونية والفلسفية التي وضعها كارل شميت".
وعادة ما تذكر الشخصيات السياسية والصحفيون المؤثرون ("النظام العالمي متعدد الأقطاب" في خطاباتهم ونصوصهم. في 2 فبراير 2000، وصفت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين أولبرايت، "الولايات المتحدة في البداية بـ "أمة لا غنى عنها")، وأن الولايات المتحدة لا تريد "إنشاء وفرض" عالم أحادي القطب وأن التكامل الاقتصادي قد خلق بالفعل "عالم معين يمكن حتى تسميته متعدد الأقطاب." في 26 يناير 2007، تحدثت افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز بصراحة عن "ظهور عالم متعدد الأقطاب" مع وجود الصين "بمقعد موازٍ على الطاولة مع مراكز قوة أخرى مثل بروكسل أو طوكيو".
لقد اعتبر الكثيرون الرئيس الأمريكي باراك أوباما هو المبشر بـ "حقبة التعددية القطبية"، اعتقاداً منهم بأنه سيعطي الأولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة لمراكز القوة الصاعدة مثل البرازيل والصين والهند وروسيا. ومن جانبه قال نائبه حينها جوزيف بايدن في 22 يوليو 2009، خلال زيارة لأوكرانيا: "نحاول بناء عالم متعدد الأقطاب." لكن كل ما قيل أو كتب حتى الآن لا يقدم تعريفاً دقيقاً لمفهوم العالم متعدد الأقطاب.
في أغلب الأحيان، فإن الدعوة إلى "التعددية القطبية" كان مبعثها ظهور بعض المنافسين في الأفق، في سياق العولمة، في مركز وقلب العالم الحديث "(الولايات المتحدة، وأوروبا، وعلى نطاق أوسع، "الغرب العالمي") -القوى الإقليمية النامية بسرعة أو ببساطة القوى وكتل القوى التي تنتمي إلى العالم الثاني (القوية). فالمقارنة بين قدرات الولايات المتحدة وأوروبا، من ناحية، ومراكز القوة الجديدة المتنامية (الصين، والهند، وروسيا، ودول أمريكا اللاتينية، وغيرها)، من ناحية ثانية، مقنعة بشكل متزايد لنسبية التفوق التقليدي للغرب، وتثير أسئلة جديدة حول منطق العمليات الإضافية التي تحدد البنية العالمية للقوى على نطاق عالمي -في السياسة والاقتصاد والطاقة والديموغرافيا والثقافة، إلخ.
وهكذا بتصور دوجين فإن كل هذه الملاحظات والشروحات "مهمة للغاية لبناء نظرية عالم متعدد الأقطاب، لكنها لا تعوض بأي حال من الأحوال عن غيابها، ويجب أخذها في الاعتبار عند بناء مثل هذه النظرية، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنها تتميز بطابع مقطعي وجزئي، ولا ترتفع حتى إلى مستوى التعميمات النظرية الأولية".
ولكن، على الرغم من ذلك، فمن الممكن "سماع دعوات إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب بشكل متزايد في المؤتمرات الرسمية والندوات والمؤتمرات الدولية. وتوجد إشارات إلى التعددية القطبية في عدد من الاتفاقيات الحكومية الدولية المهمة وفي نصوص مفاهيم الأمن القومي واستراتيجية الدفاع لعدد من الدول المؤثرة والقوية (الصين وروسيا وإيران وجزئيًا الاتحاد الأوروبي)". كل هذه المؤشرات تدفع نحو المطالبة بـ "اتخاذ خطوة نحو البدء بصياغة متكاملة لنظرية العالم متعدد الأقطاب وفقًا للمتطلبات الأساسية للمنهج العلمي الأكاديمي".
ولكنه قبل الشروع عن كثب في بناء نظرية عالم متعدد الأقطاب، يرى دوجين أن "من الضروري تحديد النطاق المفاهيمي قيد الدراسة بدقة". وذلك يقتضي النظر في المفاهيم الأساسية وتحديد تلك الأشكال من النظام العالمي التي هي بالتأكيد ليست متعددة الأقطاب".
ويبدأ دوجين بناء نظريته للتعددية القطبية بنقد نظام ويستفاليا، الذي "يعترف بالسيادة المطلقة للدولة الوطنية ويبني على هذا الأساس المجال القانوني للعلاقات الدولية بأكمله. هذا النظام، الذي تبلور بعد عام 1648 (نهاية حرب الثلاثين عامًا في أوروبا)، والذي مر بمراحل عديدة من تشكيله"، وقد عكس بدرجة معينة "الواقع الموضوعي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية". إن هذا النظام الذي ولد من رحم رفض مزاعم إمبراطوريات العصور الوسطى بالعالمية و"الرسالة الإلهية"، وتوافق مع الإصلاحات البرجوازية في المجتمعات الأوروبية واستند إلى الموقف القائل بأن الدولة الوطنية فقط هي التي تتمتع بأعلى سيادة، وخارجها ليست هناك حالة أخرى لها الحق القانوني في التدخل في السياسة الداخلية لهذه الدولة -بغض النظر عن الأهداف والمهمات (الدينية أو السياسية أو غير ذلك) التي قد تسترشد بها. ومنذ منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كان هذا مبدأ السياسة الأوروبية محددا سلفًا، وبالتالي، تم نقله مع بعض التعديلات إلى دول بقية العالم"، في إطار الحملات الاستعمارية الأوروبية التي هيأ لها نظام ويستفاليا الظروف المواتية للبدء والاستمرار من خلال تجميد الصراعات الأوروبية البينية في أوروبا وأطلقها خارجها على المستعمرات والموارد والطرق والممرات.
نعتقد أن أقرب البدائل للنظام الدولي الحالي هو النظام الثنائي القطب، والسبب في عدم الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب في المستقبل المنظور يعود –برأينا- إلى عدم توفر مراكز قوى مؤثرة بشكل فعال في بنية العلاقات الدولية تقود نحو أكثر من قطبين عالميين.
ليس من المحتمل أن تنفرد الصين ولا روسيا حالياً بتشكيل قطبين عالميين مستقلين حالياً، ذلك أن النمو الاقتصادي الصيني لا يجعل من الصين دولة هيمنة قائمة عسكرياً واقتصادياً في وقت واحد، فالهيمنة الاقتصادية للصين ليست مكتملة بدون التكامل الاقتصادي مع بقية الاقتصادات الناهضة حالياً (البرازيل، الهند وجنوب أفريقيا) كما أن القوة العسكرية الروسية على ضخامتها وحداثتها لا توفر لها كامل الهيمنة بدون توفر نطاق جيوسياسي عالمي لانتشار القوة كما هو حال الولايات المتحدة والغرب وتجد روسيا هذا في تحالفاتها الإقليمية العسكرية (كوريا الشمالية وايران). لكن القوة العسكرية وحتى التفوق النووي لا يوفران الظروف المريحة للمنافسة مع الغرب وهنا يأتي دور الكتلة الاقتصادية القوية الضرورية لاكتمال شروط بناء القطب المعادل.
تجتمع كل من روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا في كتلة اقتصادية واعدة يمكنها أن تشكل إلى جانب القدرات العسكرية لهذه الدول مجتمعة معادلاً موضوعياً وسياسياً للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وبالتالي تشكيل ثاني موازٍ له. هذا إلى جانب أن هناك عدداً من الدول تقدمت بطلب الانضمام لهذه المجموعة مثل: إيران، الجزائر، وربما مصر والسعودية وأعربت دول أخرى عن نفس الرغبة. وهذا القطب يمكن أن يتشكل بصرف النظر عن نتائج الحرب في أوكرانيا، ذلك لأن طبيعة المشكلات ستظل قائمة، والفارق الذي يمكن أن تشكله طبيعة نهاية الحرب في أوكرانيا هو فارق شكلي يتعلق بطبيعة قيادة القطب الجديد وتوزيع المسؤوليات فيه...
هامش:
بين الأقواس من مقدمة كتاب ألكسندر جليفيتش دوغين. نظرية عالم متعدد الأقطاب، موسكو 2013.
ألكسندر جليفيتش دوغين يناير 1962، كاتب وسياسي ومغني، بروفيسور. اختير ضمن 100شخصية الأكثر تأثيراً. في 1993-1998، كان إيديولوجيًا وأحد قادة الحزب البلشفي الوطني (المعترف به كمنظمة متطرفة في الاتحاد الروسي وتم حظره)، والذي أسسه مع إدوارد ليمونوف. في أكتوبر 1993، عارض دوجين وليمونوف بوريس يلتسين ومشاركا في الدفاع عن مجلس السوفيات الأعلى لروسيا، اعتبر هزيمة البرلمان حينها مأساة شخصية. من 1998 إلى 2003 -مستشار رئيس مجلس الدوما في الاتحاد الروسي غينادي سيليزنيف. في عام 1999، كان عضوًا في مجلس الخبراء الاستشاري لقضايا الأمن القومي برئاسة مجلس الدوما. من 2002 إلى نوفمبر 2003 -رئيس المجلس السياسي لحزب أوراسيا. تم طرده بعد خلاف مع رئيس اللجنة التنفيذية للحزب، بيوتر سوسلوف. في الفترة 2012-2016، كان عضوًا في مجلس الخبراء الاستشاري برئاسة رئيس مجلس الدوما في روسيا، سيرجي ناريشكين.
تعتبره بعض الأوساط الغربية عقل بوتين، وهو من دعاة العالم الأوراسي وينادي ببناء القطب الروسي الخاص الذي يجمع روسيا والصين وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والهند وغيرها. ويعتبر صاحب النظرية الرابعة التي تقوم على نقد النظريات الشيوعية والليبرالية والفاشية، وتؤسس لعالم يقوم على حق العيش المشترك والآمن لجميع الشعوب والأفراد.
الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز