يحتل اليمن موقعاً جغرافياً في أقصى الغرب الأسيوي ويمثل رأس حربة مقاومة تطل على البوابة الشرقية لأفريقيا، وتتحكم بأحد أهم المضائق البحرية التي تمر منه نسبة مهمة من تجارة النفط ويعد أحد نقاط الطريق والحزام الحيوية.
عاملان اجتمعا في اليمن لتنطبق عليه "انتقام الجغرافيا"؛ الموقع والموارد، وباجتماعهما يصبح اليمن في أعين دول الاستكبار التي ما انفكت تبدل صورتها الاستعمارية من شكل لآخر بما يتناسب مع التطور الإنساني، فالدول التي تحمل ملف اليمن وتدير العدوان عليه ما هي إلا امتداد لسايكس بيكو في نسخته المئوية الثانية ولكنه سايكس بيكو رباعي مع احتساب الولايات المتحدة الأمريكية والكيان المؤقت،
كغيره من دول المنطقة التي شملتها خريطة التقسيم الصهيونية وحدود الدم الأمريكية كان اليمن معرضاً للتقسيم، سلماً أو تحت القوة العسكرية!!! فبعد اندلاع ثورات ما عرف بالربيع العربي أصابت اليمن رياح التغيير التي دفعته إلى مؤتمر حوار لم يعكر صفوه سوى قرار تم إدراجه عنوة وخارج جدول النقاش يدعو لتقسيم اليمن إلى أقاليم ستة، أقاليم من يتأملها يجد أنها وضعت على معايير تضمن صراعاً دائماً، وضعفاً يستدعي معه كل إقليم أن يبحث له عن قوة تحميه إقليمية تكون أو دولية، وبالتالي سيكون ثمن تلك الحماية هي ما يملكه الإقليم من ثروات نفطية وخصائص جيوسياسية، وربما أن توجد الأمريكي والبريطاني حالياً في محافظتي حضرموت والمهرة على التوالي مقدمة لتوفير تلك الحماية على غرار ممالك الخليج، لتمتد محطات البنزين من الخليج العربي إلى البحر الأحمر لتعويض النقص في إمدادات السوق الغربية بالطاقة الرخيصة أو المجانية أحياناً.
ظهور أنصار الله كقوة سياسية خارج السياق المألوف للقوى السياسية اليمنية أربك مشروع التقسيم، فرفض أنصار الله قرار التقسيم (الأقاليم) رفضاً واضحاً، لينتقل بعده الأمريكي والسعودي إلى استخدام القوة العسكرية بالعدوان الذي أعلن من واشنطن ونُفّذ بأموال الخليج ومرتزقة محليين وخارجيين.
واجه الشعب اليمني الموجة المندفعة من القصف العنيف بالصبر الاستراتيجي وامتص الصدمة المؤلمة ليتمكن خلال القصف والتدمير من بناء قوة عسكرية استطاعت الصعود بمنحنى القوة إلى مستوى توازن الرعب مع قوة عسكرية لا تقارن من جميع النواحي، فخلال سنوات طويلة وسلاسل من العمليات العسكرية المتصاعدة وعبر تظافر الأبعاد الثلاثة للنصر وهي صمود الشعب وتضحيات الجيش واللجان، والقيادة الشجاعة والمؤيدة من الله تعالى والمؤمنة بوعده القائل: (ومن بغي عليه لينصرنه الله).
خاض أنصار الله معركة التحرر الوطني ومعركة التخلص من الوصاية والتبعية ودفعوا ثمن الحرية واستقلال القرار وسيادة الوطن من دمائهم وأشلائهم وتحملوا ضغوطاً غير مسبوقة أثناء إدارة بلد منهك من الصراعات والفساد وانعدام الأمن والاستقرار، ثم واقعاً تحت عدوان وحصار خانق، وصل إلى الاستيلاء على الموارد ومنع دفع الرواتب على مدى سبع سنوات ومنع وصول الغذاء والوقود إلى الميناء، لم تقتصر آثار توقف الراتب على الحياة المعيشية وحسب ولكنها انعكست أيضاً على قدرة الدولة على تشغيل المؤسسات وتقديم الخدمات بما لذلك من تأثير على بقاء الدولة بعيدة عن "الفشل".
لم تكن التجربة باليسيرة على أنصار الله وحلفائهم خوض معركة متعددة الجوانب وهجينة التركيب، جمعت بين القوة العسكرية والأدوات الاقتصادية والحملات الإعلامية والتضليل والتعتيم والعزلة الدبلوماسية والاستهداف الممنهج لتمزيق النسيج الاجتماعي لليمن بإثارة نعرات كانت كفيلة بتمزيق أي مجتمع متماسك في وقت السلم والاستقرار.
استطاع أنصار الله وحلفاؤهم تجاوز الكثير من الضغوط بما يمتلكونه من إدراك بمراد العدو من كل خطوة عدوانية، فكان الصبر والصمود وقبول التحدي في الميادين العسكرية صانعاً للتوازن، وكان الوعي العالي في الداخل كفيلاً بالحفاظ على الحد الأدنى من التماسك المجتمعي الذي أثمر نصراُ بدأت بوادره بالظهور وثماره بالنضوج.
"الحرب المنسية" كانت تسمية العدوان على اليمن، فالذي خطّط للحرب العدوانية لم يغب عن باله كتم صوت الضحية، ولأنه لا يملك المبرر الأخلاقي ولا المسوغ القانوني لشن عدوانه؛ كان لابد من كتم صوت الضحية وتحريك آلة إعلامية كبيرة تشيطنها، وشراء وسائل إعلامية أجنبية كانت مهمتها كشف الحقيقة، والتأثير على منظمات دولية وحقوقية كان يفترض بها إصدار تقارير عن الجرائم الوحشية والانتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي والإنساني، وكانت العزلة السياسية والدبلوماسية أحد أهم الأسباب في تغييب القضية اليمنية، حين عمد العدوان إلى استنساخ حكومة عميلة في فنادق الرياض تبرر للعدوان جرائمه وتضلل الرأي العام الدولي في كل محفل.
خلقت العمليات العسكرية المتواصلة لدى العدو قناعة بأن ما يسمى الحسم العسكري بات خياراً مكلفاً وغير واقعي فانتقل إلى الهدنة، وظل يراوح في الهدنة ما يقارب العام لم يلمس الشعب اليمني سوى انفراجة ضئيلة في ميناء الحديدة ومطار صنعاء وهي دون مستوى تطلعاته، القيادة وجهت رسائلها التي يصدقها العدو بلا شك أن صبر اليمنيين سينفذ وأن الخيار المؤلم سيكون هو الخيار الوحيد.
خلال هذه الهدنة استمرت المفاوضات بين صنعاء والرياض بوساطة عمانية ولم يتوان الأمريكي في وضع العراقيل لمنع تحقيق أي اختراق سياسي فيها يفضي إلى تجديد للهدنة وتهيئة الأرضية المناسبة لمفاوضات الحل الشامل الذي يقود إلى وقف إطلاق النار ورفع الحصار وإعادة الإعمار ودفع التعويضات وإحلال السلام الدائم والشامل، في خطابه الأخير أكد قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن الأمريكي يحاول إخراج السعودية والإمارات من مسؤولية العدوان، والضغط لتأجيل خروج القوات الأجنبية من اليمن وهو ما لا يمكن أن يقبل به اليمن مطلقاً، فقرئت تلك التدخلات بأنها عراقيل أمام السلام، ورسائل بالموافقة على القبول بالاحتلال!!! ولكن تعهد القائد للشعب بتحرير كل شبر من الأراضي اليمنية سترغم الأمريكي على مراجعة موقفه لأن اليمن سيعتبر أي قوة عسكرية متواجدة على أراضيه احتلال يجب مقاومته.
معركة اليمن ضد قوى العدوان والاستكبار ستكون محددة لشكل النظام العالمي الجديد ومقاومته ستكون ملهمة لشعوب المنطقة المستهدفة بالاحتلال والتقسيم ونهب الثروات بأن يسلكوا طريق المقاومة والتضحية لجني الثمرة حرية واستقلالاً ومغادرة للتبعية، وانخراطه في محور المقاومة أضاف ركناً مهماً في بنية المحور وعنصراً فاعلاً في معادلة القوة الرادعة لمحور الشر الأمريكي الصهيوني.