(بحث تم نشره في العام 2011)
يصادف يوم الـ 16من نوفمبر من كل عام اليوم العالمي – الدولي – للتسامح، ففي مثل هذا اليوم من عام 1995م صدر عن منظمة اليونسكو في دورتها الثاني والعشرين "إعلان المبادئ" الذي حث على الاحتفال في اليوم نفسه من كل عام كيوم دولي للتسامح، ودعا لاعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعميق روح التسامح كما أعلنت الأمم المتحدة أن العام 1996م سيكون عام التسامح على المستوى الدولي، غير أن ذلك لم يحدث فقد زادت الحروب وسادت قوى الظلام والتكبر والتجبر على المستوى الدولي والمجتمعي وحتى على مستوى الأفراد، كما اتسعت عوامل العنف والإرهاب والتطرف.
وبهذه المناسبة نحاول الاقتراب من مفهوم التسامح، كونه من المصطلحات التي يتم تداولها على جميع المستويات والمجالات ليس في مجتمع سكاني محدد بل على مستوى البشرية عبر الأزمان وفي كل النحل والأديان.
ويعتبر التسامح من القيم العليا لاسيما إذا ما تمت ترجمته على الواقع في شكل آليات يتم على ضوئها الممارسة في السلوك، لهذا غالباً إن لم يكن دائماً نجد المصطلح يتردد في الخطاب السياسي وفي برامج مؤسسات المجتمع المدني وكتابات عدد من الصحفيين والكتاب، حتى في العبارات المتداولة في الأوساط الشعبية، وكثيراً ما نسمع، أو يتردد عل المسامع (المسامح كريم) عند ممارسة شخص ما لسلوك خاطئ أو تجاوز عادة أو قيمة محمودة.
وكلمة التسامح ومشتقاتها لم ترد في القرآن الكريم وإنما جاء ما يقارب اللفظ أو ما نستدل به على المعنى، مثل الدعوة إلى التقوى والتشاور والعفو والتآزر والتراحم والتواصي، والصبر والتعارف...الخ، وكلها من صفات منظومة التسامح.
وبالعودة إلى معجم العلامة ابن منظور "لسان العرب المحيط" وتحت كلمة سمح أورد عدداً من مشتقاتها ومعانيها.
"السماح والسماحة .. الجود" والذي يعني بها الكرم، يقال جاد بالمال: بذله، وجاد بنفسه: سمح بها عند الموت وفي الحرب مستعار من ذلك وجادت السماء جوداً بالفتح أمطرت.. الخ، وإذا جاد المسامح أعطى عن كرم وسخاء.
ورجل سمح وامرأة سمحة من رجال ونساء سماح وسمحاء فيهما قال جرير :
غلـب المســاميح الوليـد ســماحة وكفــى قريـــش المعضــلات وســــادها .
وفي الحديث القدسي : يقول الله عز وجل " اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبادي"، ويأتي بمعنى الموافقة واسمح وسامح : وافقني على المطلوب .
ويأتي أيضاً بمعنى المساهلة وهو الأهم في هذا الجانب – لاسيما في المعاملات كالبيع والشراء - ففي المعجم والمسامحة : المساهلة، وتسامحوا : تساهلوا، وفي الحديث الشريف المشهور "السماح رباح" أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها " وفي حديث آخر ما معناه : رحم الله امرءاً إذا اشترى سمحاً وإذا باع سمحاً" .
وفي الحديث أيضاً إن بن عباس سئل عن رجل شرب لبناً (محضاً)أيتوضأ ؟
قال: اسمح يسمح لك، قال شمر: قال الأصمعي معناه سهل يسهل لك وعليك.
كما أتى معنى اللفظ معجمياً مرتبطاً بالحق الذي فيه اتساع، وفي هذا كانت تقول العرب : "عليك بالحق فإن فيه لمسمحاً "، أي متسعاً والاتساع ليس في القبول بل يذهب إلى الرضا يقال صدرٌ رحب وقلب متسع .
ويرتبط بالمصطلح التثقيف، والتثقيف من الناحية اللغوية والاصطلاحية تداول بشكل واسع ومكثف لاسيما في العشرين السنة الأخيرة لعدد من الأسباب، أهمها الاتجاه نحو الثقافة في عمليات التحليل والتفسير لدراسة المجتمعات وسلوكياتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى فكرياً ودينياً، على المستوى الوطني وعلى المستوى الدولي العالمي وتبنت العديد من المنظمات محاولة إيجاد تعريف أو مفهوم المصطلح ومن بينها "اليونسكو" التي سلطت الضوء على المفهوم من منظور تفاعلي وتطوري حي ليشمل العديد من العناصر ولم تقتصر على المعنى اللفظي فقط كما هو شأن القواميس والمعاجم التي تذهب إلى المعنى اللفظي فقط، وبحسب البيئة التي يعيشها المؤلف، وفي تلك الفترة كانت تضرب الأمثال بالأدوات التي يعيشها؛ لهذا جاء في معنى تسميح الرمح أي تثقيفه ورمح مسمح تثقف حتى الآن وكذا أتت المعاني للمصطلح، ومنها يمكن الانطلاق أو الانتقال إلى المفاهيم الميثودلوجية في العصر الحديث .
ونظراً لتعدد المصطلح كمعنى تعدد استخدامه في أكثر من مفهوم ويصعب استحضار ما طرح حول المفاهيم والمصطلحات القريبة من التسامح ولا يتسع المجال لها، حتى المواقف الفعلية التي تعبر عنه كالعفو وكظم الغيظ والاعتزاز وقبول العذر... الخ.
وفي التسامح الفكري - الاجتهاد الفقهي - كثيراً ما يستشهد في المجتمعات العربية والإسلامية بمقولة الإمام الشافعي رحمة الله عليه في قبول الرأي الاجتهادي وترجمة ذلك إلى سلوك عملي يتجسد في العبارة الشهيرة " رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب "، وهنا نلحظ الميل إلى الجانب الأخلاقي للمفهوم، والالتزام الذاتي في نفس اللحظة .
وعند دراسة الفكر السياسي والديني في أوروبا في العصور الوسطى وحين كانت الحروب والصراعات فيما بينها هي السمة السائدة، ظهرت العديد من الدعوات الإصلاحية التي نادت بالتسامح كقيمة يندرج تحتها العديد من القيم الإنسانية، وظهرت في أفكار العديد من الإصلاحيين والمفكرين والقساوسة والرهبان ودعواتهم إلى إشاعة ثقافة التسامح ومنهم توما الإكويني وجرجيس، هوبز وغيرهم . ويلاحظ المتابع أنه منذ العقد الأخير من القرن الماضي ازدادت الدعوات المتتالية لإحياء وإنعاش ثقافة التسامح ليس على مستوى الأفراد فقط بل والدول والعالم والمنظمات الدولية، وتأتي هذه الدعوات جراء الفوضى التي تشهدها البشرية من حروب وتدمير وانتهاكات لحقوق الإنسان وللشعوب والدول والجماعات وغيرها من المشاكل والقضايا الوحشية، حتى أصبح العالم ينام ويصحو على ثقافة بشعة وقيم سيئة (العنف، "الإرهاب"، التطرف، التشدد، الغلو...الخ )، وأهم من كل ذلك إزهاق النفس البشرية والحط من الكرامة الإنسانية التي أعزها الله ونفخ فيها من روحه .
وما حدث ويحدث في عدد من الدول من الدمار والخراب والقتل والتشريد والتفجير والتجويع والتركيع والإقصاء والحرمان والاستقواء والاستعلاء أمور يندى لها جبين الإنسانية، وتبكي وتنتحب لها قلوب البشرية، وتئن وتتوجع لها النفوس الآدمية، وتذهل لها العقول.
ورغم كل ما يطرح من كلام وأقوال وأنشطة تبذل هنا وهناك تناشد وتنادي بالتسامح وتدعو إلى إشاعة ثقافة القيم الإنسانية، إلا أن ما يترجم إلى أفعال وإلى واقع قليل جداً لعدد من الأسباب يأتي في مقدمتها هيمنة بعض القوى ومحاولة سيطرتها وفرض إرادتها كرهاً على غيرها، وبهذا تفقد العديد من المبادرات والرؤى الثقة والمصداقية .
وبالعودة إلى إعلان المبادئ الصادر عن اليونسكو نجد أنه حاول وضع تعريف لمفهوم التسامح، حيث أشار إلى أنه يعني "الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا"، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر أو الضمير والمعتقد ثم يمضي الإعلان لتفسير مفهوم التسامح فيقول " أنه الوئام في سياق الاختلاف وليس واجبا أخلاقياً فحسب وإنما واجب سياسي وقانوني "، والجملة الأخيرة تحدد أو تلقي بالمهمة على دور المجتمع ودور الدولة أيضاً باعتبار أن الدولة مفهوم سياسي .
وتملك القدرات – السلطة – ومنها حق إصدار القوانين بالرغم أن الواجب الأخلاقي أعلى مرتبة وأرقى درجة في العرف والعادات والتقاليد والقانون أيضاً ولا يسود الواجب أو القيم الأخلاقية إلا في المجتمعات الراقية، التي تسعى إلى تحقيق الفضيلة، وتعزيز القيم التي تقود إلى طرق الخير ونبذ العنف والشر وقيم الرذيلة، والإطار الأخلاقي يعتبر الحاضن لكل ما هو جميل، ولو ساد مثل هذا الإطار – ولو بصورة نسبية - لزالت المشاكل ولحلت القضايا التي تتسم بالعنف والإرهاب وغيرها من المصطلحات عند الممارسة الفعلية وتحقيق المنافع والمصالح الخاصة والجماعية .
ويمضي الإعلان في تعريفة للتسامح بما يعني" اتخاذ موقف ايجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية ".
وإن التسامح يعني " الإقرار بأَن البشر المختلفين بطبعهم وفي مظهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم لهم الحق في العيش بسلام ".
ويندرج تحت هذا التعريف العديد من المفاهيم الأخرى كالديمقراطية (الشورى) بالمفهوم الليبرالي (ديمقراطية القيم ) والتي انحسرت في الواقع العملي – الممارسة – لسيادة ثقافة الهيمنة والاستقواء والاستعلاء .......الخ.
ويطرح " إعلان المبادئ " آلية لتحقيق أو ترجمة تلك المفاهيم إلى الواقع العملي، ويحدد أن الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح هي (تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين .
العبارات هنا جميلة ورومانسية وتحمل مضامين قيمية رائعة، وتحتاج إلى جهود مستمرة ليتحقق ما يمكن تحقيقه، وبالتأمل للمفاهيم التي اقتربت من المصطلح نجدها في الأخير تعبر عن صفات فردية – قيادية – مثل القدرة على تحمل الرأي الآخر بما فيه آراء الخصوم أو المغايرين، والصبر على الأمور والأشياء التي لا يحبها الإنسان ولا يرغب فيها، بل تكون في أغلب الأحيان مناقضة لمنظومته الفكرية والأخلاقية ومغايرة لاتجاهاته السياسية والقانونية، وإذا افترضنا القبول النسبي لمفهوم التسامح من منظور أخـلاقي فـإن المطلـوب هو توسيع التسامح حقوقيــاً وهو ما يسعى إليـــه العـــالم دولاً وقوى ..
وكثيراً ما تتناول الدراسات وتناقش التسامح أو اللاتسامح – القيمة العكسية – في أنساق " خمسة: الفكري، السياسي، الديني، الاجتماعي، الثقافي "، ويترافق معها دور الأسرة والمدرسة والمسجد، ومؤسسات المجتمع المدني إضافة إلى مؤسسات الدولة لاسيما من منظور سياسي - قانوني .
وقد أشار إعلان المبادئ في مادتيه الثانية والثالثة إلى دور الدولة سياسياً واجتماعياً على التوالي.
ففي المجال السياسي أشار إلى أن التسامح على مستوى الدولة يقضي بضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية، وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز، فكل استبعاد أو تهميش إنما يودي إلى الإحباط والعدوانية والتعصب، وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية وممارسة العنف والتمييز ضدها .
كما يشير الإعلان إلى أن التسامح في النسق الاجتماعي ضروري بين الأفراد وعلى صعيد الأسرة والمجتمع المحلي، وأن جهود تعزيز التسامح وتكوين المواقف القائمة على الانفتاح وإصغاء البعض للبعض والتضامن ينبغي أن تبذل في المدارس والجامعات، وعن طريق التعليم غير النظامي وفي المنزل وفي مواقع العمل، وبإمكان وسائل الإعلام والاتصال أن تضطلع بدور بناء في تيسير التحاور والنقاش بصورة حرة ومفتوحة في نشر قيم التسامح .
ولمعالجة التحيز، تتخذ التدابير الكفيلة بضمان التساوي في الكرامة والحقوق للأفراد والجماعات حيثما اقتضى الأمر ذلك .
وبالإمكان أن نصبغ مفهوم التسامح على الأفراد إذا اتصفوا بأي من الصفات التي سبق الإشارة إليها، فالإنسان الفرد السهل في التعامل معه ومع الآخرين يكون متسامحاً، كذلك الفرد الذي يتصف أو يحمل قيمة العفو نطلق علية صفة التسامح – وبحيث لا يصل إلى حد السذاجة - غير أن ضرب الأمثلة بالقادة والعلماء والمصلحين يكون أكبر أثراً وأوسع نطاقاً، لأنهم يمثلون القدوة للمجتمع، فالقائد الذي يتعرض لمواقف متعددة ومختلفة وضغوط كثيفة ويصدر منه العفو وفي يده القدرة على عمل شيء، ما نستطيع أن نطلق عليه بأنه يحمل سمة التسامح، كذلك نستنبط صفة التسامح من خلال تعامله مع الآخرين الذي يختلفون معه في الرأي أو يخالفونه في الاتجاه، فإذا كان يميل إلى القبول بهم وعدم مضايقتهم أو استبعادهم أو تهميشهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فنستطيع أن نطلق عليه صفة التسامح مادام ذا صدر رحب ومتسع، ولا يحمل مثل تلك الصفات إلى رجل متسامح فإذا كان عالما صار قدوة للمتعلمين وإذا كان قائدا أصبح قدوة لمرؤوسيه ويمكن أن تنعكس على المؤسسات وأن تسود فيها روح التسامح، أو مصفوفة، القيم والصفات التي تخلق مع الفرد وتنمو وتزدهر بالمواقف والتجارب الحياتية ويمكن أن تكتسب عن طريق التنشئة والتعليم .
نختتم هذه المقالة بالإشارة إلى أن التسامح في مفهومه الاجتماعي يسود بين الأفراد والجماعات ببروز قيم التعاون والعفو والمحبة والتراحم ....الخ .
أما وفقاً للمفهوم المركب الذي يُسـعى إلى تحقيقه عبر مصفوفة قيم الحرية والحقوق الفكرية والسياسية .....الخ .
فيمكن أن ينظر إليه وفق المعيار السياسي – القانوني، وتكون مؤسسات الدولة هي الحاضنة له.
ختاماً نصل إلى نتيجة مفادها أن " التسامح " مفهوم غير محايد، لهذا فالعالم بحاجة إلى إعمال العقل الخيّر لإدراك المشكلات والقضايا، وكيفية التعامل معها، لأنها أصبحت معقدة ومتشابكة، لا يمكن حلها إلا بإشراك جميع القوى والتوجهات المختلفة. .
والله الموفق،،،