للمرة الرابعة، تعقد قمة ثلاثية تجمع رؤساء الدول الضامنة لعملية "أستانا" روسيا وإيران وتركيا في مدينة سوتشي الروسية لمناقشة آخر المستجدات على الساحة السورية، وضبط الساعة لحسم الملفات العالقة وإعطاء دفع جديد للتسوية السياسية عبر تضافر الجهود المشتركة بما يضمن الالتزام الثابت بسيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدة أراضيها وسلامتها التي تؤكدها مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الغير قابلة للتأويل وفق الأمزجة والمصالح الضيقة لأي من الدول، ومن هذه المنطلقات جددت قمة سوتشي تعهداتها بمواصلة جهودها الحثيثة وتسريع الخطى لوضع حد للحرب الإرهابية على سورية وتفعيل مسار الحل السياسي بشكل ينهي الأزمة المفتعلة من قبل قوى التآمر الغربية.
وحتى يتسنى للقائمين على الحل التوصل لإنهاء الأزمة في سورية، لابد من التحرك الجدي والفاعل بخطوات ملموسة بما يضمن تحقيق ما اتفق عليه خلال قمة سوتشي التي جددت في بيانها متابعة العمل للوصول إلى تسوية سياسية عبر التمسك بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها، والاستمرار بمكافحة الإرهاب، ودعم المصالحة الوطنية والحوار السوري - السوري، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين إلى منازلهم، والعمل على تكثيف الجهود لإطلاق عمل اللجنة الدستورية في أقرب وقت، والرفض القاطع لكل محاولات فرض وقائع جديدة على الأرض من قبل أي دولة بذريعة "محاربة" الإرهاب، والتصدي لأي مخططات انفصالية ترمي إلى تقويض سيادة الدولة ووحدة أراضيها، ومناشدة المجتمع الدولي لتنشيط دوره في مساعدة الشعب السوري بعيداً عن أي تسييس.
نقاط عدّة بحثتها قمة سوتشي الأخيرة الغاية منها وضع حد لكل لمجريات الأوضاع التي من شأنها إطالة أمد الأزمة خدمة لأهداف قوى التآمر المشبوهة على حساب السوريين وأمنهم واستقرارهم ومن هذه النقاط التي تم البحث فيها الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب، حيث أدانت محاولات تنظيم "جبهة النصرة" الإرهابي توسيع نطاق سيطرته في المنطقة والذي يشكل قلقاً لابد من التصدي له بفعالية، إضافة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتقليل الانتهاكات في منطقة خفض التصعيد في إدلب عن طريق التنفيذ الكامل للاتفاقات بشأنها بما في ذلك اتفاق سوتشي في أيلول الماضي، وتفعيل عزم الدول الضامنة وتعاونها للقضاء على تنظيمي “داعش” و"جبهة النصرة" وجميع الأفراد والمجموعات والمؤسسات والتنظيمات المرتبطة بالقاعدة او “داعش” والمجموعات الإرهابية الأخرى المدرجة على قائمة مجلس الأمن الدولي للكيانات الإرهابية، كما تم بحث الوضع في شمال شرق سورية والعمل على تنسيق الجهود لضمان الأمن والاستقرار في هذه المنطقة في ظل الاتفاقات القائمة بما يضمن احترام السيادة وسلامة الأراضي بعيداً عن أي حل عسكري للأزمة، وإنما عبر حل سياسي في سياق عملية يقوم بها السوريون ويقودوها بأنفسهم بمساعدة الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
ومن جملة النقاط التي بحثتها القمة بعناية، تسهيل عملية إطلاق عمل لجنة مناقشة الدستور استناداً إلى العمل الذي قامت به الدول الضامنة، وضرورة مواصلة الجهود للمساعدة في عودة الاستقرار إلى جميع الأراضي السورية، وحث المجتمع الدولي وخاصة الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية على زيادة المساعدات لسورية والمساهمة في إعادة إعمار البنى التحتية، والعمل على تهيئة الظروف لعودة المهجرين إلى أماكن مناطقهم وذلك بالتفاعل مع جميع الأطراف المعنية بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين ومواصلة التنسيق وتوسيعه، في الوقت الذي رفضت فيه القمة جميع محاولات إقامة وقائع جديدة على الأرض بذريعة مكافحة الإرهاب، وأكدت تصميمها على التصدي للمخططات الرامية إلى تقويض سيادة سورية وسلامة أراضيها لافتة بهذا الصدد إلى أن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من سورية سيغدو في حال تنفيذه خطوة تسهم في تعزيز الاستقرار والأمن في البلاد تنفيذاً للمبادئ المشار إليها، لكن الشكوك بقيت تجاه نية واشنطن سحب قواتها من سورية.
ورغم النجاح الذي حققته القمة الثلاثية، يبقى هناك عراقيل محتملة حرّضت الكثير من التساؤلات التي تبحث عن إجابات شافية حول الوضع في منطقة شرق الفرات والشمال السوري وفي إدلب، فكيف سينتهي إليه الحال؟ وبشأن انسحاب القوات الأمريكية، وأيضاً مدى التزام أنقرة بتعهداتها؟ فنظام رجب أردوغان الضامن للتنظيمات المسلحة تنصل من التزامه بما تمخض عن قمة سوتشي السابقة لاسيما ما يخص إدلب بما فسح المجال أمام التنظيمات المسلحة لمواصلة خرقها لاتفاق وقف إطلاق النار وللمنطقة المنزوعة السلاح التي اتفق عليها وسيطرتها على أغلب محافظة إدلب، ويبدو أن ذلك يدغدغ أحلام أردوغان وأوهامه والتي تثبت الوقائع أنه يمضي في اللعب على الوقت للبقاء في دوامة ما اقترفته يداه، والتضليل عبر تصريحاته المتناقضة ولعبه على الحبال بعدما أمسى عاجزاً عن الخروج من المأزق الذي وضع نفسه وبلاده والمنطقة نتيجة رعايته للتنظيمات الإرهابية وعدم رغبته في القضاء عليها باعتبارها ذراعاً يحقق من خلالها أوهامه، وبات معلوماً للجميع حقيقة المواقف التركية الراعية للإرهاب والمعرقلة للاتفاقات والمساعي السلمية، فهل سيترك الحبل للنظام التركي؟ أم إن مسارات أخرى ستفرض عليه تلزمه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه؟ وخاصة أن هناك هواجس من المماطلة التركية.
فمخرجات قمة سوتشي التي بحثت عن مخارج للاختناقات القائمة يبقى نجاحها مرهون بمدى التزام النظام التركي بتعهداته وتنفيذ ما اتفق عليه على الأرض وخاصة في إدلب، إذ أدت مماطلته وتنصله إلى سيطرة تنظيم "جبهة النصرة" الارهابي على أغلب محافظة إدلب، وهذا لن تقبل به سورية التي ترفض وجود أي بؤرة إرهابية على أراضيها، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد "أنه لا يمكن أن يبقى الإرهابيون في إدلب إلى ما لا نهاية، كما أن وزير خارجيته سيرغي لافروف كشف عن خطة استعادة المحافظة من التنظيمات الإرهابية، إذ صرح أثناء مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن أمس بأن قادة روسيا وتركيا وإيران اتفقوا خلال لقائهم في سوتشي على إطلاق آلية "الخطوة خطوة"، لاستعادة إدلب من التنظيمات الإرهابية، وأن الاتفاق يقضي بشروع العسكريين الروس والأتراك في العمل على تحديد مناطق داخل نطاق وقف التصعيد لتسيير دوريات مشتركة، وذلك بعد أن تعثر تنفيذ اتفاق أيلول بين موسكو وأنقرة حول إدلب، وتدهور الوضع هناك بشكل ملحوظ بعد بسط تنظيم "جبهة النصرة" الإرهابي سيطرتها على نحو 90% من أراضي المنطقة، وهذا الوضع لا يمكن الصبر عليه إلى ما لا نهاية "، مبيناً "أن تحديد كيفية تحرير إدلب من الإرهابيين مسؤولية العسكريين، وسنفعل ذلك بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تمت بها تصفية الإرهابين في الرقة، وأن الجيش سيضع خطته وفقاً لمتطلبات القانون الدولي الإنساني"، وبالتزامن بيّن أردوغان إمكانية مشاركة بلاده في عمليات عسكرية مشتركة مع روسيا وإيران لمكافحة الإرهابيين في إدلب في أي وقت وفقاً للتطورات، وأن الجيش التركي والروسي يقومان بعمل مكثف لتنفيذ مذكرة إدلب ومكافحة الجماعات الإرهابية في المنطقة، ولابد من الإشارة هنا إلى أن بيان القمة رفض أي وقائع جديدة على الأرض بذريعة مكافحة الإرهاب، لذلك فإن إقامة أي «منطقة عازلة» وفق ما يحلم أردوغان ويتوهم مرفوضة جملة وتفصيلاً ، لكن، أين سيرسو نظام أنقرة؟ فلننتظر لتتبين الخطوات التركية!.
الوجود الإرهابي في سورية غير مقبول، لأنه يعرقل الحلول ناهيك عن تواجده الخطر على الشعب السوري، وهذا لم يغب عن الرئيس بوتين الذي اقترح خطوات عملية للقضاء على الإرهاب في سورية، إذ قال خلال اجتماع القمة في سوتشي: "لا يمكن السكوت عن تواجد الإرهابيين في إدلب، ومن الضروري النظر في خطوات للقضاء عليهم، وحالياً، يتم في جميع أنحاء سورية تقريباً الالتزام بنظام وقف الأعمال العدائية، وبالتالي ينخفض مستوى العنف، وهذا، بالطبع، نتيجة إيجابية لعملنا المشترك، ونحتاج إلى ضمان خفض التصعيد بصورة نهائية، نجحنا في مساندة نظام وقف العمليات في المحافظة، لكن هذا لا يعني المصالحة مع الجماعات الإرهابية، لذلك، أقترح النظر في الخطوات العملية التي قد تتخذها روسيا وتركيا وإيران بشكل مشترك للقضاء على البؤرة الإرهابية بالكامل"، وهذا ما أكدت عليه القمة.
وبشأن انسحاب القوات الأمريكية التي يعد وجودها معرقلاً لحلول إنهاء الأزمة، أظهرت قمة سوتشي توجسها وشكوكها من النيات الأمريكية بخصوص الانسحاب، وتدخل واشنطن السافر في شؤون سورية الداخلية وممارساتها العدوانية اليومية بحق الشعب السوري، بما يعنيه من وضع حد للانتهاكات الأمريكية، والدفع باتجاه سحب القوات الأمريكية من سورية، وفسح المجال لدخول القوات السورية دون سواها إلى تلك المناطق مع ضمان عودة كل الأراضي إلى سيادة الدولة بما فيها إدلب، وفي هذا السياق أبدى الرئيس الإيراني حسن روحاني قلق طهران إزاء ما وصفه "المؤامرة طويلة الأمد" الأمريكية ضد سورية، ورأى أن الولايات المتحدة لن تتوقف عن التدخل في شؤون سورية وقد تواصل عدوانها من الجو حتى إذا انسحبت قواتها البرية منها، وحمّلها مسؤولية دعم الإرهابيين في سورية والعراق واستغلالهم لتحقيق مصالحها، وشدد على ضرورة سحب الولايات المتحدة قواتها من سورية، لكي يتمكن الجيش السوري من الانتشار بأسرع وقت ممكن على ضفتي الفرات بما يراعي مصالح سكان المنطقة مشيراً إلى أن موقف الدول الثلاث والمجتمع الدولي بأكمله يقضي بضرورة استعادة الحكومة الشرعية السيطرة على كامل أراضي سورية، وأدان الغارات الإسرائيلية على سورية، في حين بيّن الرئيس بوتين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلتزم بوعوده الانتخابية، لكن الظروف الداخلية في الولايات المتحدة تمنعه أحياناً من تطبيقها، مضيفاً: "لا نعلم ما سيحدث لاحقاً، لكن اليوم نؤكد أنه لم يحصل أي تغير ملحوظ على الأرض"، وتابع بوتين: إذا سحبت الولايات المتحدة في الواقع قواتها من سورية، فإن القوات السورية يجب أن تسيطر على هذه المناطق، بينما صرح أردوغان أن قرار سحب القوات الأمريكية يعود إلى ترامب ويواجه معارضة داخلية، ومن غير الواضح متى سيطبق هذا القرار وما إذا كان سيحصل فعلاً، ولفت إلى أن أنقرة تعول على التنسيق مع روسيا وإيران في عملية سحب القوات الأمريكية من سورية، وبهذا الخصوص، صرح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الذي يشارك في المباحثات الثلاثية لروسيا وتركيا وإيران حول سورية في مؤتمر صحفي بأن موسكو لم تر بعد انسحاب القوات الأمريكية من سورية، بل ترى دعمهم الفعال بالسلاح والمعدات للوحدات الكردية على الضفة الشرقية لنهر الفرات".
ولكن ماذا بخصوص اللاجئين؟
أوضح الرئيس بوتين أن الدبلوماسيين الروس بذلوا بالتنسيق مع الأطراف السورية والأمم المتحدة جهوداً ملحوظة في هذا الخصوص، وقد تقلص عدد اللاجئين والنازحين السوريين الذين يعانون من غياب المساعدات الإنسانية إلى الثلث، لكن نحو مليون شخص لا يزالون يحتاجون المساعدة، وتأمل قمة سوتشي في أن يلعب المجتمع الدولي وبالدرجة الأولى الأمم المتحدة ووكالاتها دوراً أنشط في دعم جميع السوريين دون تسييس وشروط مسبقة، وقال: "روسيا وإيران وتركيا تبذل مساعي منسقة لاستعادة الحياة الطبيعية في سورية ومساعدة السوريين على إعادة الإعمار، وقد أحرزنا نتائج تجسدت في عودة أكثر من 130 ألف لاجئ سوري إلى مناطقهم خلال الأشهر الستة الماضية، كما تم التأكيد على الحوار السوري - السوري، وإقامة حوار بين الحكومة السورية وممثلي الأكراد.
وطرح موضوع اللجنة الدستورية في القمة التي يعمل أطرافها مع المبعوث الأممي الخاص إلى سورية "غير بيدرسون" على تشكيلها بناء على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عقد العام الماضي في سوتشين وإجراء تعديلات عليها وقد شارفت على الانتهاء وهي على وشك إطلاق عملها في القريب العاجل، وحثت القمة على أهمية استمرار التعاون والتنسيق بين "الأطراف السورية" وبيدرسون الذي أبدى تفاؤله بشأن المباحثات التي تمضي على نحو جيد، وعبّر عن أمله بأن تجتمع لجنة صياغة الدستور الجديد في جنيف بأقرب وقت، وبيّن أن لديه أفكاراً بشأن كيفية بناء الثقة بين الحكومة السورية و"المعارضة" في الجولة المقبلة من مباحثات جنيف، كما تطرقت القمة إلى أهمية مفاوضات أستانا بالنسبة للتسوية السلمية في سورية، وضرورة الحفاظ على "مبادئ أستانا" برغم الاستفزازات المختلفة.
على أي حال، فإن قمة سوتشي الرابعة أعطت دفعاً جديداً للتسوية السياسية في سورية في إطار الجهود السياسية والدبلوماسية، وخاصة أنها أتت بعد الإعلان الأمريكي سحب قواته من سورية، وقد تصدّر جدول أعمالها تداعيات هذا القرار الذي لم تتضح معالمه بعد، وإطلاق عمل اللجنة الدستورية السورية في مواجهة مساعي بعض الدول الغربية لعرقلة عملها، إضافة إلى الوضع في إدلب على خلفية تعثر تطبيق الاتفاق الروسي- التركي على تشكيل منطقة منزوعة السلاح فيها بسبب تنصل الجانب التركي من التزاماته في تطبيق بنوده وما تبع ذلك بما آلت إليه من سيطرة "جبهة النصرة" الإرهابي على أغلب المحافظة في تطور يخالف شروط الاتفاق وهذا ما لا تقبل به القمة التي اتخذت قراراً حاسماً لجهة تحديد مستقبل إدلب والأرياف المجاورة لها، الأمر الذي يرجح بدء عملية عسكرية ضد التنظيم الإرهابي وقد أعد لها الجيش السوري من جديد، بمؤازرة القوات الجوية الروسية، وقد تنفذ عمليات عسكرية مشتركة في المحافظة، فهل تشكل قمة سوتشي الرابعة نقطة تحول لحل الأزمة في سورية ؟.