تأتي تصريحات السفير البريطاني الأخيرة تجاه اليمن (في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة) في سياق العودة البريطانية للمنطقة الخليج العربي واليمن، التي تعتبرها مناطق نفوذها الاستعمارية القديمة. ولدى الدول الاستعمارية الأوربية عرف إمبريالي يرى في البُلدان التي كانت ضمن مستعمراتها فيما مضى - وتخلصت من النير الاستعماري في مرحلة نهوض التحرر الوطنية - مناطق نفوذ مستقبلية في شكل استعمار جديد، بل إن كثيراً من الدول الأوربية قبيل انسحابها أو خروجها بالقوة العسكرية أبقت أشكالاً من النفوذ الاستعماري يتفاوت من العسكري إلى السياسي، وكذا الامتيازات الاقتصادية الاحتكارية. وعلى غرار التدخلات الفرنسية بالشأن السوري واللبناني كمناطق نفوذ من إرثهم الاستعماري القديم؛ تأتي التدخلات البريطانية في اليمن والخليج تأكيداً على هذا "الحق" الاستعماري.
المنطق العدواني الذي تحدث به السفير البريطاني لدى حكومة هادي مايكل آرون - مؤخراً - المتمثل في "إخضاع الحوثيين للقبول بالتسوية السياسية"، وتحميل أنصارالله تداعيات العدوان وتعريف الحرب العدوانية الاجرامية التوسعية السعودية كحرب "دفاعية"!!! وعن مشروعية بقاء القوات الأجنبية في اليمن إلخ عناصر ذلك الخطاب هو ذات المنطق العدواني الذي يتجلى في كتابات سفير حكومة هادي لدى بريطانيا، وهذا يكشف بأن الرؤية والسياسة العدوانية البريطانية هي التي تنفذ من بداية العدوان، وهي التي تنعكس في ذهنية القوى السياسية الموالية للعدوان.
لم يكشف السفير البريطاني - في تصريحاته الأخيرة - فقط انحياز المملكة المتحدة للمملكة السعودية وعدوانية سياسة لندن الخارجية، بل كشف أن العدوان الذي تتزعمه أمريكا إنما يقوم على الإرث السياسي والخبرة الاستعمارية التاريخية البريطانية، فهي الكيان الاستعماري الأقدم في المنطقة، وصاحبة العلاقات والروابط مع القوى المحلية العميلة في اليمن وإمارات ومشيخات الخليج.
بعد فشل الولايات المتحدة الأمريكية في حسم الحرب في اليمن يبدو أن المملكة المتحدة (البريطانية) تسلمت ملف العدوان على اليمن، في إطار الشراكة وتقاسم الأدوار والمنافسة الاستعمارية بين أمريكا وبريطانيا في اليمن ودول الإقليم، كما تأتي هذه العدوانية البريطانية استجابة لتحولات داخلية تجري في الأروقة البريطانية، وأبرزها محاولة بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوربي والتملص من سياسة الاتحاد الأوربي (شبه المعتدلة) وقيودهم على تصدير السلاح للسعودية والامارات.
وللعودة البريطانية مؤشرات عديدة جاءت من قبل تعيين المبعوث البريطاني مارتن غريفيث، وبالتدخل البريطاني لإفساد آخر جولات مفاوضات الكويت 2016، ومحاولة استصدار قرار يستبعد عائلة "صالح" من الحظر الذي أقرته عليهم لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة بشأن اليمن، وكذلك تبني بريطانيا مشروعي القرارين الأخيرين تجاه اليمن فيما يتعلق بمشاورات السويد،
سيكون لهذه العودة تداعيات خطيرة خاصة في جنوب اليمن، وفيما يتصل بسياسة فرق تسد وما يرافقها من تهييج للعصبيات الطائفية والمناطقية.
تسعى بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوربي ما يعني إطلاق جماحها الاستعماري البربري والتنصل من معايير الاتحاد الاوروبي والسياسية الخارجية التي ترسمها دول الاتحاد الأوربي (توافقياً). كما أن البريطاني هو الذي عرقل مشاورات الكويت الأخيرة وأدخل تعديلات على مسودة الاتفاق، بالإضافة على ذلك فقد تبنت بريطانيا قرارات مجلس الأمن الأخيرة تجاه اليمن دعماً للتسوية السياسية التي يقودها المواطن البريطاني مارتن غريفيث.
قبل تعيين غريفيث أواخر العام الماضي بدأ وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون زيارة للمنطقة شملت السعودية وعمان. وجاءت هذه الزيارة بعد اجتماع الرباعية في باريس، حيث التقى بنظرائه: الأميركي ريكس تيلرسون، والسعودي عادل الجبير، والإماراتي عبد الله بن زايد. وقد اعتبر جونسون أن «لسلطنة عمان والمملكة السعودية دوراً مهماً في المنطقة خصوصاً فيما يتعلق بإيجاد حل سياسي للأزمة في اليمن». كما كثفت الخارجية البريطانية مؤخراً من لقاءاتها في مسقط مع فصائل الحراك الجنوبي المختلفة.
في العامين السابقين تردد البريطاني إلى ساحل عدن، كما قام وفد بزيارة مواقع استخراج النفط جنوب البلاد، رافقتهم قوات أمنية بريطانية.
منذ عام أعادت بريطانيا افتتاح قاعدة عسكرية في سلطنة عمان، بجانب قاعدة عسكرية لها تقع في الامارات.
ويأتي إصدار مرتزقة العدوان لكتب طائفية كنوع من المنطق الطائفي الذي هيجته بريطانيا في عشرينيات القرن الماضي حين كان جيش اليمن المتوكلية على مقربة من مستعمرة عدن. ويأتي التوسع الإماراتي في منطقة القرن الأفريقي في أحد أوجهه توسعاً بريطانيا، حيث أن العلاقات الاماراتية البريطانية أكثر تشابكاً وعمقاً من غيرها.
للعود البريطانية على المنطقة تداعيات خطيرة على مستقبل اليمن، وأخطر هذه التداعيات على الوضع اليمني الحالي في ظل العدوان، تتمثل بعقد صفقات سلاح جديدة مع السعودية والإمارات.
كما ستتولى بريطانيا إسناد الضعف السياسي الذي يعاني منه بن سلمان، وتغطية الثغرات الحمائية التي كانت تسدها، وأصبحت تخجل من الاستمرار بذلك - علناً - بعد مقتل خاشقجي.
وعلى صعيد الملف السياسي التفاوضي ستقوم بريطانيا بإعطاء المبعوث الأممي مارتن غريفيث مساحة أوسع للحركة، وأكثر من فرصة لإنجاز تسوية معينة أو خطوات في سبيل ذلك في مساعي لا تخلو من الخداع. كما أنه من المحتمل أن تعطى سلطنة عمان دوراً في العملية السياسية كنافذة خلفية تتحرك عبرها بريطانيا.
ونظراً لأن الجنوب اليمني يمثل نقطة ارتكاز للنفوذ الاستعماري البريطاني القديم، فمن المحتمل أن يشتد الصراع في جنوب اليمن وترتفع النبرة الانفصالية ..كما ستشهد المرحلة المقبلة اشتداد للخطاب الطائفي والمناطقي، مع السياسة البريطانية فرق تسد.