أدى الفشل العسكري المتوالي والمتكرر في الحديدة، إلى تقويض الإدارة الأمريكية (التي تقود المعركة مباشرة في الحديدة والساحل الغربي) ووضعتها أمام حقيقة مكانتها الاستراتيجية وميزان قواها الحقيقة على الأرض، مما يُظهرها عارية مكشوفة أمام القوى المنافسة في المنطقه والعالم. ويذهب بهيبتها ويدحر وجودها الاستراتيجي القديم، الذي كان قائماً على توازنات، كانت للولايات المتحدة وحلفائها فأعطتهم تلك القدرة على السطوة والبطش والتحدي الذي تمتعوا بها في القرن الماضي، كل تلك الامتيازات ذهبت بها تغيراتُ موازين القوة التي طرأت حديثاً. مما يجعل القوة الأمريكية تمر بمرحل الضعف والانحلال جراء تراكم الهزائم العسكرية والسياسية، أمام محاور المقاومة والممانعة في الشرق الأوسط والمنطقة.
وهناك مجموعة من الشواهد تبرز في المنطقة الآن تدلل أكثر على الحقيقية السابقة وتؤكدها، وأهمها إعلان أمريكا سحب قواتها من سوريا قبل أيام، وترك المنطقة لوكلاء محليين يقومون نيابة عنها بالدور المطلوب، نتيجة عجزها المدوي أمام محور المقاومة وما حققوه من انتصارات على أدوات أمريكا وحلفائها من السعودية الإمارات وقطر والقاعدة وداعش وغيرها.
ومن هذه المؤشرات أيضاً:
انفضاح قضية اغتيال خاشقجي من قبل زعيم العدوان السعودي بن سلمان وما أحاط بالجريمة من ممارسات بشعة، هزت الرأي العام الأمريكي والغربي والعالمي عموماً.
فضح دور ترامب الرئيس الأمريكي وصهره في التعصب لابن سلمان وملاحقتهم للصفقات التجارية الشخصية على حساب أمن أمريكا والغرب، وحجب المعلومات المخابراتية الحقيقية عن إدانة بن سلمان في جريمة القتل البشعة.
انعقاد مجلس الشيوخ الأمريكي والتصويت على إدانة بن سلمان بالإجماع وفقاً للتقرير المخابراتي المعروض على المجلس.
تشريع قانون آخر بالأغلبية يلزم لترامب بوقف الحرب في اليمن وسحب كل القوات الموجودة والخبرات وأشكال الدعم، ووقف صفقات السلاح مع دول العدوان. وهو ما يعني أن المظلة السياسية الاستراتيجية الدولية للعدوان السعودي الاماراتي على اليمن تقلصت.
اقتناع الرأي الغالب في الكونجرس والشارع الأمريكيين بأن انتكاسات أمريكا المتوالية في المنطقه سببها ترامب وبن سلمان وبن زايد والسياسات المتطرفة المغامرة التي تتبعها الإدارة بتحريض اليمين الصهيوني والسعودي المتطرف وسخاء رشاويها لأسرة ترامب، كل هذه العوامل تظهر السعودية وحلفاءها ضعيفة في الميدان والسياسة، وتدل على أن هزائمها في الميادين أضحت نهائية غير قابلة للتعديل والتعويض كما كانت خلال الأربعة الأعوام السابقة، وغير قابلة للإخفاء خلف دعوات مختلفة أضحت مفضوحة.
كل متابع للأخبار المنشورة يلاحظ مدى الأزمة والاشتباك بين أطراف الأزمة الداخلية السعودية ومدى الارتباك والقلق المتبادل التي انعكست في تغيرات في المناصب الوزارية، وطالت عدداً من الوزراء، كانت تلك حصيلة أمس القريب، تضاف إلى سلسلة التغيرات السابقة التي بدأت بعزل عدد الأُمراء ثم اعتقال عدد آخر من الرأسماليين الكبار والعلماء وكبار الأمراء ومصادرة أموالهم، وكانت المناطق الشرقية للمملكة قد شهدت انتفاضات شعبية واسعة شملت مدناً عديدة أهمها القصيم.
قضية خاشقجي مسألة متفرعة عن العدوان على اليمن، وتباين المواقف حوله داخل البيت العدواني حول إداراته والأساليب المتبعة لا ضد أو مع، وليست منفصلة عنه، ويحاول الاعلام المضاد تصويرها كقضية منفصلة لها علاقة بمعارضة الضحية لبن سلمان حول السياسات المُنتهجة، وأي سياسات أكثر خطورة من عدوان على اليمن ونتائجها، فالصراع في الشام والعراق ولبنان قد حسم هناك، وتم الاقرار والتسليم بالنتيجة، فلم يعد هناك خلاف رئيسي كبير حول السياسات داخل البيت الحاكم بل حول الغنيمة. فقد انتقل مركز ثقل الصراع الرئيسي الآن في المنطقة إلى اليمن داخل الأسر الحاكمة وداخل المؤسسات الأمريكية الغربية، وقد خلق الفشل والإخفاق العسكريين استقطاعات حادة في كل الأطر، وخاصة المراكز الأمريكية السعودية متحولاً إلى انقسامات حادة.
جاء اغتيال خاشقجي على خلفية دوره في الصراع، فقد كان ضمن جناح في المخابرات الأمريكية مناهض لابن سلمان وترامب معاً، تتمحور هذه المعارضة حول أمريكا ومشاكلها الداخلية والخارجية، وحول أُسلوب ترامب في إدارتها، ومنها حرب اليمن، على خلفية فشل الإدارة الأمريكية الجديدة في إدارة معارك أمريكا وأهدافها الاستراتيجية ومطامعها. أي انعكاس هزائم العدوان الأمريكي السعودية على أيدي القوى الوطنية اليمنية، وعجزها عن التصدي للقوى الوطنية، وعن تراجع ترامب في الشام والعراق ولبنان وتركيا وروسيا وإيران وأفغانستان وباكستان وماليزيا وفنزويلا وأوكرانيا وكوريا والصين وقطر وعمان والأردن واليمن، وحول الانتخابات الأمريكية والتدخل الروسي فيها، وحول تلقي الرشاوى والشك في ولائه لأمريكا بل لأمواله ومصالحه الخاصة المشبوهة في الأساس.
وفي هذه المعركة بين الطرفين المتنافسين عشية الانتخابات الأمريكية تصبح الملفات الساخنة هي الذخيرة التي يمكن توجيهها إلى الخصم بهدف التشهير بسياساته وإدارته. وقد أراد طرف في المؤسسات الأمنية والتشريعية الأمريكية أن يجند خاشقجي في الصراع الجاري، فكلفه بإعداد ملف حول مخالفات سلمان في الممارسات الحربية ضد اليمنيين والسكان المدنيين، واستخدام أسلحة محرمة أمريكية تم بيعها للسعودية والإمارات بصورة مخالفة للقانون الأمريكي، وقد نشرت صحيفة الاندبندنت البريطانية توضيحاً حول ذلك، كشفت فيه كيف أن الضحية قد أُستدرج إلى القنصلية السعودية في اسطنبول شاركت فيه السفارة السعودية وقيادتها، والإدارة الأمريكية أيضاً ربما كانت على علم بما يجري نتيجة للتنسيق الوثيق بينها وبن سلمان. وما أقلق المؤسسات الأمريكية العامة هو أن افتضاح بن سلمان ودوره البشع في الجريمة قد كسر الصمت القديم حول الجرائم ضد الإنسانية في اليمن ودور أمريكا في العدوان وقيادته وتخطيطه وتتوجيه وتطويره.
انتخاب سلطة تشريعية جديدة في أمريكا أغلبها معادية لترامب وسياساته، ومنها رفضها الدور الأمريكي في العدوان، ورفضها سياسة التوتر مع إيران حول الملف النووي وحول صفقة القرن، وحصار قطر والعلاقات الدولية المتوترة مع العديد من الدول، كلها مواقف مبنية على حسابات المصالح الاستراتيجية العليا لأمريكا كأمة ودولة وقيم معينة تمنحها شرعية الوجود.
هذه الخسائر المتوالية لترامب تعني أن الجمهوريين أغلبيتهم قد نفضوا أيديهم من ترامب وإمكانية إعادة ترشيحه للانتخابات القادمة في المنافسة مع الديمقراطيين الصاعدين الآن بقوة والحاصلين على أغلبية محترمة في الكونجرس، لأن ترامب قد تورط في الكثير من المصائب وأضحى حصاناً أعرجاً لا يقوى على المنافسة في أي سباق قادم بعد عامين، عقب تلويث سمعته، وتنتظره الكثير من الفضائح التي مازالت ملفاتها مطوية لدى عدد من المحققين، وهي ضمن خطط حرب سياسية تجري، وتفتح حسب التقدم نحو المعارك الكبيرة في المجال السياسي الداخلي، ولن يكون أمامه سوى الترشح مستقبلاً كما فعل المرة السابقة، ولكن حظه ميؤوس منه الآن، فلم يصل إلى البيت الأبيض من قبل رئيس فج وسيئ السلوك مثله!
إن الحرب على اليمن قد تضمنت الكثير من الحيل والتجاوزات للقانون الأمريكي وتحديات المشرعين والكونجرس والسلطة التشريعية الأمريكية، التي هي أقوى المؤسسات في النظام الأمريكي، وقد انحصرت سلطة الحرب في أيديها بعد أن انتزعتها من الرئيس نيكسون إبان حرب فيتنام وأجبرته على الاستقالة في النهاية، بعد أن اتجه نحو التفاوض مع الفيتناميين ومغادرة البلاد المحتلة وتحمل الأكلاف الضرورية والاعتراف بسيادة واستقلال فيتنام. وقيدت سلطات الحرب بقانون يعطي الكونجرس فقط حق إعلانها ومراقبتها، فلا يستطيع الرئيس أن يبادر إلى حرب أو التدخل من خلف الكونجرس، وهذا ما يحدث الآن في اليمن والشرق الأوسط.
معني هذا الواقع على العدوان وعلى الحرب الرئيسية في الحديدة والساحل الغربي، هي أن العدوان وقيادته الأمريكية السابقة، في ظل الإدانة الشامل في الكونجرس والصحافة والرأي العام، سيكونون في وضع صعب جداً، لا يستطيعون ممارسة اللعبة السابقة بأمان ولا يستطيعون تقديم المزيد من الدعم الأمريكي للعدوان وقيادته، ولا لمزيد من الصفقات الضخمة للأسلحة الأمريكية المتطورة والدقيقة، وإن فعلوا سيقعون تحت الرقابة والمحاكمة البرلمانية لأن وكالة الاستخبارات الأمريكية والدولة العميقة تريد فضح ترامب وإضعافه، بعد جرائمه الأخيرة وتسهيل التخلص منه، وهو نفس الدور الذي فعلته مع نيكسون قبل إسقاطه وطرده من البيت الأبيض قبل نهاية مدته القانونية.
بقاء العلاقات التحالفية مع السعودية وتجريم بن سلمان ، تعني أن ترامب وبن سلمان لا يستطيعان القيام بأي تعاون حر ومشترك في العدوان، والتراجع عن جميع الخطوات التي تمت خارج القانون الأمريكي، وهي كثيرة، بما فيها قرار الحرب ومبرراتها والأسلحة المحرمة دولياً، التي تم منحها السعوديين وتم استخدامها في العدوان على المدنيين في اليمن، وبأوامر من بن سلمان ووالده مباشرة، وهي موثقة لدى المؤسسات الدولية وتضع أمريكا أمام المحاسبة والمسؤولية القانونية ولو بعد حين.
علماً أن جريمة قتل خاشقجي الأساسية التي استدعت من بن سلمان تقطيعه هي لأنه جمع مواداً موثقة حول استخدام السعودية أسلحة محرمة في اليمن وتسجيلات لتعليمات بن سلمان التي توجه استخدامها ضد المدنيين كنوع من الإرهاب والترويع للمدنيين اليمنيين، لإخضاعهم للعدوان، وهذا ما كشفته قبل أسابيع صحيفة الاندبندنت.
إن كل خطوة جديدة لتأييد بن سلمان من ترامب بعد القرارات البرلمانية الأخيرة تعني خطوة أكبر نحو سقوطه المدوي، وهناك ملفات قابله للنشر لاحقاً تشير إلى رشاوى تسلمها ترامب من بن سلمان له ولأسرته ولأعضاء من أصدقائه في الكونجرس مقابل مساعدته في الحصول على تأييد الادارة الأمريكية للسعودية في مواصلة حملتها المتوحشة على اليمن والوصول إلى الملك، لعنة الدم، وهي لعنة تشبه لعنة فيتنام على أمريكا ورئيسها آنذاك نيكسون في العقد الأخير من الحرب، وهذه يمكن تسميتها لعنة "المنشار". وتذكرنا باضطرار نيكسون إلى التخلي عن تأييده لـ"دييم" الجنرال الفيتنامي العميل في جنوب فيتنام، وللحكومة العميلة التي ظل الأمريكيون عشر سنوات يدعّون شرعيتها وأنها تمثل الشعب في الجنوب وأن الشمال شيوعيٌ مع السوفييت معادٍ لأمريكا وإمبرياليتها وأطماعها، وأنها خطر على الأمن القومي الأمريكي وعلى القيم الأمريكية، كل هذا تبخر في ساعات، بعد أن كشفت الصحافة والمعلوماتية واقعه تجسس نيكسون على مقرات الأحزاب المعارضة في أمريكا نفسها مدللاً بذلك على مخاطر الفساد الرئاسي على أمريكا نفسها ومن داخلها.
ظهور التقرير العدلي الذي أعده القاضي مولر المحقق العام في القضايا الموجهه كتُهم محتملة ضد ترامب، والتي بدأت بإقالة وسجن المحامي الخاص بترامب والحكم عليه بعده سنوات سجن وهي تهم تلاحق ترامب نفسه، هو ما يضيف إلى النار المشتعلة المزيد من الهشيم المستعر.