تحاول الولايات المتحدة ألأمريكية تحسين مظهر هزيمتها على المستوى الاستراتيجي في سوريا. فالقوات الأمريكية التي رابطت في سوريا لم تكن في جوهرها قائمة للحرب على داعش -لتبرر خروجها بهزيمة داعش- فقد كان وجودها الفعلي كقاعدة عمليات عسكرية سياسية مؤثرة في المسار السوري ومهندسة له، باتجاه تقويض النظام الوطني السوري، وتبني نظام سوري عميل على أنقاضه، وكذلك تقسيم سوريا إثنياً وطائفياً، وفق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
تطورات الواقع الموضوعي في الداخل السوري التي تمضي باتجاه انتصار النظام الوطني السوري، هي السبب الرئيسي الذي دفع ترامب إلى إعلان سحب القوات الغازية من سوريا. وتكمن محاولة تحسين الهزيمة في صيغة الخروج التي جاءت في تغريدة ترامب: نتيجة لهزيمة داعش.
تغريده الرئيس الأمريكي التي ربطت الانسحاب من سوريا بهزيمة داعش، تفسر وجود تلك القوات طوال الفترة الماضية بقيامها بالحرب على "داعش"، فيما الحقيقة الملموسة كانت مجافية لما قاله ترامب، فعلاقات الولايات المتحدة مع "داعش" كانت على النقيض من ذلك، علاقة تعاون لا عداء.
الخطوة الأمريكية ترسل إشارة إلى موسكو بأنها كانت شريكاً أساسياً لروسيا في هزيمة داعش، وبأنها تخلت عن مسارها الخاص المخالف لذريعة دخولها "مكافحة الإرهاب"، واستجابت للدعوات الروسية للخروج من دائرة الغازي إلى دائرة الشريك في الحرب على الإرهاب، مما يضمن للولايات المتحدة الأمريكية بعض المكاسب، منها الاقتصادي في مستقبل إعادة الاعمار في سوريا.
عودة السفارات البحرينية والإماراتية إلى سوريا بعد 8 أعوام من مقاطعتها، بالتزامن مع الانسحاب العسكري الأمريكي، لا تعكس الارادة السياسية المُستقلة لهذه الدول وتطور موقفها الخارجي طبقاً لمصالحها الداخلية، بل تعكس موقفهما السياسي المُلحق بالموقف الأمريكي.
السعودية من جهتها لا تمانع عودة سوريا إلى الجامعة العربية وربما ستكون التالية في طابور الحج إلى دمشق، السفير البريطاني السابق في البحرين وسوريا بيتر فورد أكد أن قطر لن تتأخر عن اللحاق بموسم الحج ربما بمعية السفيرين البريطاني والفرنسي أيضاً.
كل هذا جزء من بانوراما المرحلة المقبلة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لم تقتصر تطورات الوضع في سوريا على الانسحاب الأمريكي، فقد اتخذ الجيش الوطني السوري خطوة متقدمة بالدخول العسكري إلى منطقة منبج شرق الفرات. وهذه الانتصارات العسكرية والسياسية، دلالاتها كثيرة، لكنها على صعيد علم الاجتماع، تثبت أمراً جوهرياً. وهوَ وجود قوانين تحكم سير التطور الاجتماعي في كل مرحلة تاريخية. هذه الحتميات المنبثقة عن هذه القوانين والتي تتحقق عبر الممارسة البشرية. كانت هذه الحتميات منذ بادئ الأمر، تقول بأن أمريكا الإمبريالية تضعف وتنحسر من المنطقة وتفقد شروط هيمنتها. وأن الشروط التاريخية تعطي قوى المقاومة والدفاع عن السيادة الوطنية الأفضلية والمُستقبل في الاقليم، وتتجه بالعلم نحو التعددية القطبية.
يأتي الانسحاب الأمريكي متأخراً، بعد الانسحاب المبكر لكل من القوات الإيرانية والقوات الروسية، التي كانت متواجدة في سوريا لمهمة محاربة "الارهاب" وغادرت عقب الانهيارات المتسارعة لـ"داعش" وحضور الدولة السورية محلها. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية بررت دخولها إلى سوريا بحجة مقاتلة "داعش"، وقدمت دعماً لقوات "سوريا الديموقراطية" التابعة للقوى القومية الكردية، إلا أنها أعلنت في وقتِ لاحق بأن لقواتها في سوريا مهمة جديدة، ألا وهي "إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا".
بناءً على هذهِ الحقيقة التاريخية، فليس من المُستبعد وجود نوع من التفاهم أو المساعي لتفاهم، أن يكون الانسحاب الأمريكي له مُقابل من انسحاب إيراني، برعاية روسية، فكما يبدو بأن الأمريكي رمى بالكرة في ملعب الروسي من أجل صياغة رؤية توافقية أمريكية روسية ايرانية بشأن الملف السوري، أو على الأقل بما يحفظ للولايات المتحدة الأمريكية أدنى المكاسب. وكانت القناة العاشرة الاسرائيلية قد تحدثت سابقاً عن وجود صفقة كهذه، وقد تناولتها من باب الاعتراض على الانسحاب الأمريكي فهذه القوات كانت تمثل مكسباً للكيان الصهيوني.
التداعيات المحتملة لهذه الخطوة، هي إعطاء أمريكا دوراً تركياً أكبر في المنطقة، على حساب الدور الخليجي، مما سيسبب ضغطاً على دول الخليج لتقدم العطايا الاقتصادية لترامب، ومثل هذه الفرضية للانسحاب تتوافق مع العقلية التجارية للرئيس الأمريكي. كما أنها تتفق مع الاستراتيجية الأمريكية لتمزيق سوريا الذي فشل تطبيقه على نطاق واسع.
فالحديث الأمريكي التركي عن "ملء الفراغ" في منطقة شرقي الفرات، هي محاولة تقديم هذه المنطقة لتركيا لتحل محل الأمريكي، ويتفق هذا المفهوم مع ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي من تسليم فرنسا لواء اسكندرون السوري لتركيا، عشية الحرب العالمية الثانية.
المؤشرات على هذه الخطوة الأمريكية، يؤكدها واقع التهديدات التركية التي جاءت على لسان القيادة العليا بدخول هذه المناطق بحجة محاربة وحدات الشعب الكردية، التي تعتبرها تركيا منظمة "إرهابية". كما يتفق هذا المؤشر مع ما سربته شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية، حول نص المكالمة الهاتفية، والتي جرت بين ترامب وأردوغان بزعم "محاربة الإرهاب".
دخول القوات السورية مدينة منبج الواقع في ريف حلب الشمالي الشرقي بالتفاهم مع "قوات سوريا الديموقراطية"، مثلت هذه العملية خطوة سورية مُتقدمة في مواجهة احتمالات الغزو التركي، وهو الأمر الذي لاقى ترحيباً شعبياً وكذلك من الدول الصديقة للنظام السوري كروسيا التي تلعب دور الوسيط بين الجيش السوري و"قسد". ومع نجاح هذه الخطوة تتجه الأوضاع لتعميم هذه الخطوة، وفي حالة نجاحها سيؤدي ذلك إلى القضاء النهائي على المحاولات التركية، وتلافي نموذج عفرين التي غزتها القوات التركية بالتعاون مع مرتزقتها.