منذ آلاف السنين، كان (باب المندب) بوابة اليمن وسورها الغربي الحصين، وأسميت هذه المنطقة بالحميرية (ذو الباب) فكانت قاعدة الدفاع الكبرى والأولى عن اليمن العربي. تأخذ أهميتها من طبيعتها وتضاريسها وموقعها الجغرافي الرابط بين الخليج اليمني والبحر الأحمر وستحكمها به، كما تأتي أهميتها من عمقها ودروبها الداخلية الحصينة التي تقود إلى الهضبة الجنوبية الغربية والشرقية والشمالية.
من هنا يرتفع خط الدفاع الأول عن اليمن وعدن ولحج وأبين و الجنوب اليمني.. وكان الشهيد الرئيس الصماد قد عمّد هذه الفلسفة الوطنية بدمائه الشريفة ليصنع قواعد معركة جديدة منقلبة على الحال السابق في جانبه الاجتماعي والأمني وجانبه العسكري والسياسي.
إن الخطر الرئيسي على اليمن دوماً يأتي من الغرب الساحلي شمالاً وجنوباً، وبالعودة التاريخية للماضي نجد أن أكبر وأخطر المعارك والحروب العدوانية الرومانية -الحبشية -العثمانية التركية -السعودية -البريطانية -الإيطالية...، قد دارت على هذه الرقعة الساحلية الجبلية السهلية من المندب حتى المخا.
من آلاف السنين كانت المخا هي ميناء اليمن الأكبر وقاعدتها الصناعية والزراعية لتجارة البن والفواكه، وجسر العبور إلى القارة السمراء وشمالها واستيطانها ونقل الحضارة إليها وإلى العالم.
شكلت المنطقة الغربية الساحلية لليمن "كعب أخيل" في منظومة الأمن القومي اليمني، ففيها تبتدئ خطوط الدفاعات الطبيعية عن اليمن، ولذلك كانت مستهدفة في مقدمة أهداف أي عدوان والذي يتحدد مصيره فيها، وقوة الوطن تكمن في السلسة الجبلية والتباب والقلل والشعاب المحاذية لكونها مشارفة على الخط الساحلي اليمني.
وتاريخياً، كان العدو ينجح أحياناً في اختراق الساحل السهلي في مناطق معزولة فيه، لا تتعدى أميال معدودة، لكنه قد يتوقف لسنوات وعقود دون أن يتقدم للداخل خطوات. وكان رهان العدو دوماً هو انتظار نفاذ انشقاقات وخيانات داخلية يمكن شراؤها وامتطاؤها خلسة للعبور إلى الداخل على مراحل متتالية. تماماً كما حدث مع الخيانة التي تلقاها الإمام يحيى حميد الدين في الحديدة وتهامة من بعض المشيخات هناك المرتبطة بالسعودية والاستعمار البريطاني.
إن المعركة الجارية لم تبدأ الآن بل هي جارية منذ بداية العدوان قبل سنوات على الساحل الغربي ومازالت متواصلة ولم تتوقف يوماً منذ أن بدأت، لكنها انحصرت الآن في أقسام من الساحل في جنوبه ووسطه وشماله، ولم تصل إلى الحديدة مباشرة رغم الاستهداف الجوي للمدينة طوال الوقت باعتبارها مركز الاستهداف الاستراتيجي المعلن للعدو، وهي –كما نكرر دائماً- معركه من أجل السيطرة على الموانئ والساحل المطل على البحر الأحمر وعلى مضيق المندب، ومعركة تعز الساحلية الغربية مرتبطة بهذا المشروع الكلي وليس لتعز بذاتها على الرغم من الاستهداف لها كجغرافيا ضامة لكن اختراقها ونفاذ المشروع فيها يعتمد بدرجة رئيسية للمعركة الساحلية والاختراقات المقابلة الالتفافية...
إن المعركة تأخذ شكل أقسام عدة متوالية، أي أن المعركة الكلية هي مجموعة معارك عديدة تحدد كلاً منها مصير الأخرى.
تشارك في المعركة جميع قوات العدو بفروعها البحرية والبرية والجوية، في إطار مسرح يتسع ليشمل مئات الأميال من البحر والبر والفضاء الجوي. ولا تشكل معارك المخا وموزع الراهنة إلا جزءاً منها وليس الكل رغم أهميتها الكبيرة بالنسبة لمستقبل ومصير معركة الساحل والحديدة.
إنها تتشكل كميادين عديدة تجري فيها المواجهات من ميدي إلى الخوخة وحيس والمخا وموزع إلى المندب وكهبوب... تجري بقيادة القوات البرية على الساحل الغربي والتي تدار من الضفة الأخرى للساحل اليمني الغربي في أرتيريا وميون، وكذلك من القاعدة الرئيسية الأخرى التي استحدثها العدوان في المخا.
تنطع العدو وإعلامه حول المعركة للسيطرة على الحديدة ووصفها بالـ(وشيكة)، ينطوي على الكثير من الهذيان والتهويل والتشتيت والابتزاز كذلك! وإلا برأينا لما سربها العدو عبر المبعوث الدولي الجديد في مداخلته الأخيرة أمام مجلس الأمن، ولا كان أشار إليها السفير الأمريكي في معرض التشفي والتظاهر بالغطرسة حين قال: "إن أبناء تهامة سوف يخرجون بالورود لاستقبال الغزاة"!
وفعلياً، إن تسريب الأنباء للمعارك الوشيكة هو إجهاض لأي معركة حقيقية، أو أن العدو يشتت الأنظار عما يوشك الإقدام عليه، فأقدم على اغتيال الرئيس الشهيد صالح الصماد وما احتوته هذه العملية القذرة الجبانة من محاولة خلخلة الجبهة السياسية والأمنية والضرب المعنوي لشارع الثورة والمقاومة، وقد فشل فشلاً ذريعاً في ذلك وأنتج العكس كما أشار قائد الثورة السيد عبد الملك، إضافة إلى أن هذه العملية ترافقت أيام الخميس والجمعة والسبت اللاحقة للاغتيال؛ معارك ضارية في الساحل الغربي وتم دحرها.
أيضاً، قد تعني تلك الطروحات العدوانية إشارة إلى معارك (وشيكة) أخرى خاطفة غير التي نتوقعها، بمعنى المعركة البرية الكلاسيكية المرتبطة بتقدم قوات العدو على الساحل، وإنما قد يكون المقصود هجوماً جديداً يأتي من البحر والجو والبر في وقت واحد، ويكون ميدانه الرئيسي ساحل مدينة الحديدة المحيطة ودائرتها الجغرافية، وهذا يعني فتح جبهة جديدة حول الحديدة وبالتأكيد ستستخدم الاختراق في حيس والخوخة للضغط في هذه المعركة والالتفافات...
وهذا في الواقع يجري ضمن عملية تضليل تكتيكي وتشتيت طويل ومتعدد، لإخفاء الوجهة المباشرة للهجوم المتزامن معه عدد من الهجومات ذات الأبعاد والأهداف العدة، بحيث يبقى الخصم في حالة تشتت، وهذا تكتيك غربي معهود، وقسم منه يندرج في معارك الحرب النفسية والناعمة.
بداية، لا شك أن المعركة في الحديدة، لن تكون دفعة واحدة، فهذا مستحيل، فالشعب اليمني يقاوم بقوة وأصاب القوى العظمى بالجنون، وسيبقى يقاوم بشكل أشد ضراوة، فهي إذاً كما هو واضح ويجري ستأخذ شكل الحرب التدريجية المتتالية المتعددة الاتجاهات المتزامنة بلعبة الطاولات والمفاوضات والسياسة، والحرب الأمنية والنفسية، فهي سلسلة مترابطة تعمل معاً.
بعد سيطرة العدو على مناطق في حيس والخوخة، أصبح نافذاً على شريط من الساحل يمتد من المندب إلى حيس بطول 150كيلومتر تقريباً، وهو ما يشكل أكثر من نصف المسافة بين المندب والحديدة.
إن خيانة الخوخة حيس وقبلها المخا وذوباب والمندب، قد فتحت شهية العدو وجعلته يعتقد بإمكانية تقدمه نحو بقية الساحل المؤدي إلى ضواحي الحديدة، ولذلك يبدو أنه يرمي باحتياطاته العسكرية نحو معركة الحديدة الجديدة التي يريد لها أن تكون نقطة انعطاف حادة لصالحه تجعله أقوى من قبل في مواجهة الجيش اليمني والأنصار ويمسك بأوراق هامة على طاولة أي مفاوضات قادمة يمكنه أن يضغط عبرها لإملاء شروطه وإرادته –حسب تصوراته.
لم تنته المعركة بعد على شرق وشمال ساحل المخا وحول المرتفعات الجنوب غربية المسيطرة على المضيق الدولي والبحر الأحمر والساحل التي لاتزال تحت سيطرة القوات اليمنية.
إن عقدة الجبال والمرتفعات في معركة الساحل معضلة العدوان الدائمة التي لا حل لها مهما حاول المعاوضة بالحرب النفسية وكثافات التقنية والضربات والعتاد.
لم تكن أحداث ديسمبر 2017م الإجرامية إلا رأس جبل الجليد من مسلسل الخيانات والاجرام والتآمر ضد الوطن من قبل قوى الخيانة العفاشية، فقد تم تصفية رأس المؤامرة الأخيرة غير أن بقية الأطراف والأذيال كانت قد التحقت بالعدوان من وقت مبكر من بدايته وسراً، وتم تنظيم قواتها هناك في مؤخرات العدوان في مأرب وعدن ولحج وشبوة والبيضاء والضالع...، في معسكرات خاصة مموهة في عدد من الألوية الموالية لأسرة عفاش وحاولت التخفي تحت أسماء أخرى، بينما الأمريكان والإمارات والسعودية تقوم بتعبئتهم في أعمال استخباراتية وعسكرية وأمنية، لكن النفخ في الجسد الميت لا يجدي بل يضيف عبئاً.
لقد نقلت الإمارات قوات طارق عفاش من "بير أحمد" في عدن إلى المخا، وهي قرابة 4 ألوية عسكرية تم تجميعها بعد ديسمبر وقبله، وتموضعت حول المخا استعداداً لشن الهجوم نحو مفرق المخا موزع بهدف الالتفاف على قوات الجيش اليمني فوق جبال العمري والوازعية وكهبوب جنوباً وعزلها عن قواعدها وتموينها شمالاً وشرقاً لتثبيتها في مواقعها خوفاً من قيامها –انطلاقاً من تمركزاتها الجبلية- بانقضاضات وهجمات صاعقة على مؤخرات العدو ومجنباته خلال تقدمه للأمام وأيضاً لتأمين الطريق البري للعدو وخط تموينه القادم من المندب.
كما يهدف العدو لتكوين قاعدة للهجوم على ساحل الحديدة عبر السيطرة على المرتفعات شمال شرق المخا لتأمين رؤوس جسور الانزالات البحرية على المخا وبقية المناطق الساحلية استعداداً للتقدم باتجاه الحديدة، ومحاولة اختراق الهضبة الجبلية الموازية للطريق الرئيس البري على الساحل الغربي جنوبي الحديدة.
ومن جانب آخر، فإن الهجمات على المفرق والوازعية، هي تهدف كذلك لخنق التقدمات اليمنية في جنوب تعز والحجرية التي تخنق طرق إمدادات العدو وارتباطه بمدينة تعز وتهدد تموضعه في باب المندب وإمداده القادم من عدن.
وكالعادة، في ظل المحارق التي تغرق فيها قواتهم، تتفجر الاتهامات المتبادلة بين أطراف المرتزقة بالخيانة والفرار وتسريب المعلومات ... فكل انتصار يمني يفجر النزاعات البينية في مربع العدوان.