طيلة الأعوام الثلاثة الماضية، أدخل تحالف العدوان مجموعة من التغيرات على المستوى الاستراتيجي العام وعلى المستوى التكتيكي العملياتي، وذلك لأسباب عدة بين ذاتية وموضوعية، نحاول هنا أن نقارب هذه المسارات والتغيرات وخلفياتها، وإلى أين ستفضي.
كان الهجوم الأول على الساحل الغربي قد جرى خلال العام الأول للعدوان والاحتلال، وهو مرتبط عضوياً بمشروع إعادة الاحتلال الأجنبي للجنوب، و سلخ مرتفعات تعز الجنوبية الغربية وساحلها الاستراتيجي والسيطرة على الحديدة والسهل التهامي إلى ميدي في أقصى الشمال الغربي، مروراً بالسيطرة على مئات الجزر المنتشرة على الجروف القارية اليمنية في البحر الأحمر وبحر العرب.
استمر هذا الهجوم لأشهر طويلة من المعارك الضارية لقرابة العام إلى أن انكسر في منتصف العام 2016م بشن الجيش اليمني هجوماً مضاداً في صيف ذلك العام لاسترداد الشريط المحتل من ذوباب إلى مشارف المندب، وتوقف في "الحريقية" بسبب الغطاء الجوي للعدو.
أهداف الهجوم الساحلي الاستراتيجية كانت ومازالت تمتد للسيطرة على جميع الموانئ على البحر الأحمر –وعلى السهل التهامي الزرعي - والممر المائي – وتكريس الحصار الاقتصادي الشامل للوطن ومراكزه الداخلية.
ونتيجة للمصاعب الكبيرة التي واجهت مشاريع الاحتلال على الأرض؛ فإن قيادة العدوان قد قسمت المهام على مراحل وأطوار تدريجية للوصول في النهاية إلى الهدف الكبير، فقد جرى شن الهجمات من الجنوب الغربي تجاه المخا ومن الشمال تجاه ميدي أملاً في توسيع الهجمات والمعارك وتطويرها والتقدم نحو الحديدة من اتجاهين كبيرين حسب انجاز المهمات من قبل القوى المقاتلة على الأرض، وبعد أن يتم السيطرة على قواعد ومناطق حماية وإقامة رؤوس جسور تؤمن إنزال القوات المعادية المتجمعة في مداخل البحر الأحمر وخليج عدن والدفاع عنها، ومنع حدوث انهيارات وانكسارات كبيرة قد تؤدي إلى كوارث ماحقة بالقوات الغازية، خاصة أنها قد تصبح أهدافاً مكشوفة أمام الصواريخ والمدافع اليمنية.
ولذلك، قسمت المهمة إلى مهام منفصلة تكتيكياً، مترابطة استراتيجياً، أي القيام بالتقدم التدريجي على الساحل على مراحل طويلة من الصراع، وبالاعتماد على أسلوب الاستنزاف المادي والعسكري وإحكام الحصار وإعادة تقليب البني الديموغرافية بما يخدم أهداف تحالف العدوان الإمبريالي على الوطن.
في الطور الأول للهجوم كان ميناء المخا -الميناء الرئيسي على الساحل– هو الهدف الأول للهجوم المعادي في تلك المرحلة، وظل مصير الهجوم البري مرتبطاً بالهجوم البحري الجوي للعدوان، كهجوم خطط له أن يصل في نهاية المطاف والحركة على الأرض إلى تطويق الحديدة من الأرض ومن البحر واقتحامها بعد مرحلة أولى تتضمن التمهيد الكامل للمهمة التي خطط لها أن تأخذ مراحل وأطوار عدة.
تولت الإمارات بتكليف أمريكي سعودي قيادة العمليات العسكري البرية والبحرية على المنطقة الغربية التي تمتد من ميدي إلى المندب مروراً بالحديدة -أهم منفذ تجاري بحري للبلاد وأهم شرايينها الاقتصادية- وكان الأمريكي الصهيوني هو صاحب المشروع والحاجة ومخطط ومسلح وقائد العدوان على اليمن وهو في الساحل الغربي حاضراً بقوة.
بالنسبة للأمريكي، فإن الهجوم يدخل في صلب استراتيجيته وأطماعه العسكرية والاقتصادية الدولية الاستعمارية والتحكمية إذ ترتبط الدائرة المستهدفة بأعظم احتياطي نفطي في العالم أجمع مركزه الرئيسي يقع في اليمن، وفيها أيضاً أهم الطرق الدولية والممرات التي تتحكم في ثلث التجارة العالمية عبر القارات الثلاث، كما يطمح بالسيطرة على حوض البحر الأحمر وجعله بحيره خالصة تحت الهيمنة الأمريكية الصهيونية وأتباعها، علاوة على أن البحر الأحمر والسواحل اليمنية توفر له التحكم في شبه الجزيرة العربية وموقعها الحيوي الجيواستراتيجي بالنسبة لآسيا.
كما يرتبط مشروع احتلال الساحل الغربي بالمخزون الضخم من النفط في إقليم أوغادين في أثيوبيا الذي تحتكره الشركات الغربية الاسرائيلية وحدها، ويمتد من الضفة الغربية للبحر الأحمر إلى الضفة الشرقية على الجانب اليمني بوصفهما تركيباً جيولوجياً واحداً في الأساس قبل التصدع الجيولوجي الذي نتج عنه الشق البحري الحالي، وهناك تتركز أعداد كبيرة من القوات المعادية في القواعد الحربية الامبريالية على الجانب الآخر من الضفة الغربية للبحر الأحمر حيث أنشئت العديد من القواعد العسكرية للدول الإمبريالية الكبرى الطامعة بثروات المنطقة وممراتها وتروم احتلال الساحل اليمني بعد أن أمنت وجودها على الضفة الأخرى المهيمن عليها الآن من قبل الدول الامبريالية الباسطة نفوذها حالياً من جزر صنافير وتيران إلى سواكن إلى ميون وعصب ومصوع وجيبوتي في أقصى الجنوب الغربي من البحر الأحمر. بيد أن الساحل اليمني لا يزال هو نقطة الاستقلال الوحيدة الخارجة عن السيطرة الاستعمارية وعنصر التهديد الحرج للسيطرة الاستعمارية وهيمنتها التي جرى التخطيط لها بعمل دؤوب طوال قرون من الآن للوصول إلى النتيجة القائمة.
حاولت أساطيل العدوان في الفترة السابقة لسقوط المخا -أي ما قبل فبراير العام الماضي 2017م- أن تتقدم باتجاه الساحل معتمدة على الغطاء الجوي والصاروخي المترافق مع الهجوم البري من جهة الجنوب، لكنها أخفقت في التقدم ولو شبراً واحداً نحو المدينة أو الموانئ الرئيسة، ولم تستطع البقاء في المناطق التي سيطرت عليها، بدعم وخيانة قوى عفاش وعملاءه التي ظلت تخدم العدوان سراً من خلال تسريب البيانات والمعلومات ودس (أجهزة) التتبع للقيادات والمواقع اليمنية المستهدفة لتيسير قصفها وتدميرها من قبل الطيران المعادي.
وهذا ما يعني، أن تأمين وحماية السواحل اليمنية ممكن تماماً، بل وبتفوق عالٍ جداً، ولدينا من التكتيكات والإمكانيات والعقول ما يحول دون وصول العدو للسواحل وحسم المعارك معه أولاً بأول. بيد أن الخلل الرهيب كان في الاختراقات الداخلية والخيانات التي حدثت وكبدتنا وقواتنا وبلدنا الكثير، ليس عسكرياً وحسب، بل وسياسياً واقتصادياً.
وهذا الأمر يتطلب تنظيم البنية الداخلية للحرب بشكل دقيق ووضع الوسائل اللازمة لمكافحة الاختراقات من جهة، ومكامن القصور والعجز من جهة أخرى إضافة إلى الاضطرابات الداخلية في الأداء. أي صناعة وإعداد (فلتر) ترشيح في البنية الداخلية يواجه هذه القضايا ويعمل بشكل موازٍ.
لقد اعتمدت المقاومة الوطنية اليمنية على الردع الصاروخي القصير المدى والمتوسط سواء (التوشكا) أو الكاتيوشا –أو ما يسمى– أورغن ستالين- وهو سلاح سوفيتي أرعب العدو على الرغم من تقادمه، فهو من بقايا الحرب العالمية الثانية ومن معركه ستالين جراد الشهيرة، وذلك أن المنظومات الصاروخية الدفاعية للعدوان عجزت عن التعامل معه لأنه يطير خارج المجال التقني للصواريخ المضادة الحديثة فلا يمكن اعتراضه أو إيقافه عن بلوغ أهدافه، وقد تمكن هذا السلاح بأيدي قواتنا من صد وردع البوارج والسفن والزوارق الحربية العدوانية التي حاولت عشرات المرات أن تتقدم نحو الشواطئ اليمنية.
كما أن العدو لم يستطع رصد قواعد تواجد (الكاتيوشا) وتموضعه ومخازنه ونقله وحركته رغم معرفته الدقيقة بوجوده لدى اليمن.. وفعلياً، فإن قوتنا تكمن -ليست في نوع السلاح وكميته فقط– بل في تأمينه معلوماتياً من حيث مكامنه ومخازنه وآلية حركته ونقله... وهذا ما يدعى بأمن الحرب والمعركة، أمن القيادة والبنية العسكرية والحربية والسياسية والتنظيمية.
كان الطور الأول للعدوان قد انتهى مع انتهاء العام 2015م، حاصداً هزائم ضخمة لقواته، وذلك أدى إلى تفاقم التناقضات في جدار القوى العدوانية ومرتزقتها حول العديد من السياسات والتكتيكات.
كانت القوة الرئيسية من المرتزقة في الطور الأول هي قوى ومليشيات الإصلاح والإخوان والوهابيين والسلفيين والقاعدة وداعش –بدرجة أساسية- وكان هذا يرتبط بسيطرة الإخوان على الجهاز الإداري العسكري للدولة الكولونيالية التابعة والوكيلية القديمة -التي أسقطتها ثورة أيلول الشعبية في مركز الشمال اليمني وفي معاقلها التاريخية- والتي تمثل استمرارية للشرعية المزعومة مجسدة بقوى العميل هادي وحكومته وما تمثله من مصالح القوى التبعية والعميلة والقوى الدولية التي تديرها ومن تحاول بجنون إعادتها للحكم مجدداً.
وعلى الرغم من كون العدوان قد رمى الكثير من القدرات والإمكانيات المالية التسليحية والتقنية وجند عشرات الآلاف في ألوية وجيوش برية تقاتل بالنيابة عنه في أكثر من أربعين جبهة ملتهبة تم فتحها وإشعالها في وجه الجيش اليمني الثوري؛ إلا أن ذلك كله قد عاد على العدو وكل هذه القوى بأقسى الخسائر والنكبات، وأكثر من ذلك حين كان طيران العدو يراكم هذه الخسائر بقصفه لقواته ساعة تولي الأدبار مدحورة من المعارك، كتأديب لها.
وقد جرى ذلك وما يزال، على خلفيتين مزدوجتين، الأولى الهرب من القتال، والأخرى كانت على خلفية النزاع الإماراتي الإخواني السابق، حيث تسعى الإمارات لتقليص الاعتماد على الإخوان –لاسيما بعد فشلهم على الأرض في أكثر من جبهة ومعركة وانعكاس هذا الفشل كفشل سعودي- في مشروع العدوان بغية إضعاف نفوذهم في الحرب ومآلات المستقبل السياسي لهم في المنطقة الذي يتعارض مع توجهات الإمارات الجديدة، وتابعنا كيف لم يتوان أي من الطرفين من اتهام الآخر وعلنًا بالخيانة والغدر والتآمر من منابر إعلامه وقنواته.
وكانت انهيارات القيادات السعودية في العدوان على اليمن من حيث اعتمادها الأساسي على قوى الإخوان قد أفسح المجال للدور الإماراتي الصهيوني الأمريكي المشترك المباشر، وبدء برنامج عدواني يقوم على تقديم أولويات عدوانية جديدة وهي تقديم المشروع الانفصالي الانسلاخي التقسيمي-أساساً لمواصلة الحرب- وتجنيد القوى الجنوبية الانفصالية في الطور التالي للعدوان والحرب، والتسليم بهزيمة قيادة مشروع الشرعية وهادي والإخوان، واستبداله قيادياً بالدور الانفصالي التقسيمي لليمن اعتماداً على قيادة الإمارات ومسنوداً بالخبرة الإسرائيلية الأمريكية البريطانية لإنقاذ حربهم من الانهيار التام الذي تتفاقم الآن مشكلاته وتناقضاته إلى حد التفجر الداخلي العنيف المتجسد بسلسلة الانقلابات "السلمانية" المتوالية في المملكة وليس آخرها الاطاحة بالقيادات العسكرية الأمنية العليا مؤخراً، وتسليم حماية الأمن الشخصي والخاص لقوات خاصة تم شراؤها من باكستان بوساطة خاصة من المخابرات والإدارة الأمريكية الحالية قبيل الزيارات الأخيرة لبن سلمان إلى بريطانيا وأمريكا.
في هذا السياق من الهزائم والخسائر المتوالية على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، تشكلت المعارضة في الشارعين الأمريكي والبريطاني، وتشكل قسم من تيارات الكونجرس الأمريكي المعارضة لبقاء واشنطن في تحالف العدوان تدعو لخروج أمريكا منه، وقد بادر أكثر من عشرين نائباً برلمانياً في الكونجرس إلى تدشين النشاط المعارض بشن حملة برلمانية في هذا الاتجاه تطالب بوقف تدخل الحكومة الأمريكية في دعم العدوان على اليمن.
وبالطبع، هذه من ضمن التداعيات التي صنعتها الانتصارات اليمنية منذ بداية العدوان.
أي جانب هو الأساس الأصلي من جانبي العدوان؟! أهو الانفصال الانسلاخي والتقسيم والضم والإلحاق؟ أم إعادة حكم الشرعية الموحد إلى العاصمة اليمنية؟ وأيهما يعلو على الآخر من حيث القيمة والأهمية والأصولية والمصالح العليا للعدوان ودوله الإمبريالية؟
الجواب هو أن النية والإرادة والمخطط الأصل في العدوان على اليمن كان مبيتاً منذ عشر سنوات على الأقل، من قبل ظهور مشكلة "شرعية هادي" التي كانت مجرد ذريعة وتبريراً للأصل العدواني –القائم على الرغبة والتصميم والتخطيط للاحتلال وإعادة الاحتلال والإلحاق عبر تكتيكات الانفصال والانسلاخ والتقسيم الطائفي لليمن وتأبيده تحت النفوذ السعودي الأمريكي الإماراتي الصهيوني المشترك.
وقد تبلور هذا المشروع في مناقشات قادة المجلس الخليجي الأمريكي البريطاني الصهيوني التي تواصلت من قبل أزمة استقالة هادي. وبالعودة إلى ذلك المشروع نجد أنهم قد اقروا في قمم الدوحة والرياض العديدة التي سبقت العدوان والأزمة ما أسموه بـ(المشروع البحري الصديق) وتم تكريسه بحضور الإدارة الأمريكية في عهد أوباما وكيري وقيادتهم العسكرية الأمريكية، وأيضاً بمشاركة المصري والبريطاني والفرنسي والإسرائيلي، وما تمخض عنها من مناورات بحرية على سواحلنا اليمنية وجزرنا.
ونستخلص من ذلك أهم نتيجتين استراتيجيتين من المعلومات التي تكشفت عنها وما تسربت إلى الإعلام وما خلص إليه العديد من أجهزة ومراكز الرصد والمتابعة والتقييم الغربية المختصة:
إن مخطط العدوان على الأرض قد تمت مرحلته وتقسيمه على قسمين استراتيجيين، الأول هو القسم الحامل لإطار وشعار الشرعية، وهو القسم التمهيدي العام الضروري كقنطرة للعبور من خلالها إلى المرحلة الاستراتيجية الأهم الثانية وهي الانتقال إلى تحقيق الغايات الفعلية، أي السيطرة على النفط والممرات والجزر والبحار والسواحل، وسلخ وإلحاق الأقسام الطرفية الصحراوية النفطية من اليمن المجاورة للسعودية، ومحاصرة القسم المركزي التحرري الداخلي في الهضبة الجبلية نتيجة لصعوبة خوض حروب أمريكية ومباشرة من قبل القوى الأطلسية البحرية والقارية والجوية.. والحصار الخانق يعني الاستنزاف والتخريب الداخلي الأمني والاستخباراتي والحرب النفسية، وكذا الحرب الاقتصادية ومحاولة تجفيف الإيرادات المالية والعائدات المركزية.. وهذه إحدى خبرات التخريب الإمبريالي الأمريكي.
وهذا قد بدأ منذ الوهلة الأولى للعدوان، وتجلى بنقل البنك المركزي ثم محاولة نقل العديد من المؤسسات الإيرادية مثل "شركة كمران" والمؤسسة العامة للاتصالات" وغيرها، وكذا إيقاف ميناء الحديدة عن العمل وتدميره... إضافة إلى كون الفار هادي وحكومته العميلة المبتذلة، قد نهجت منذ أشهر عديدة، صرف المرتبات بين الفترة والأخرى بشكل مناطقي، مقتصرة على المناطق الواقعة تحت سيطرتهم!
وحالياً، بدأت تدور رحى مناورات جديدة خبيثة، من خلال اختلاق مهددات (أسلحة ليزرية يمنية) ضد الوجود الأمريكي، ومن جهة أخرى المناورات البريطانية الأمريكية "الناتوية" في البحث عن مناطق عازلة في السواحل اليمنية!! والغرض لذلك واضح وهو إدخال قوات دولية تخرج الأرض الساحلية من السيطرة الوطنية! وهذا بحاجة إلى نقاش أوسع.