تعيش الثورة الشعبية اليمنية –الوطنية التحررية- خلال تحركها للأمام واصطدامها بالعديد من التناقضات والقوى المعيقة لتقدم الثورة؛ تباين مواقف القوى المتعددة المشاركة في الثورة، انطلاقاً من تباينات مصالحها الجديدة المأخوذة من تغير مواقعها من السلطة والثروة والثورة. فكلما تقدمت الثورة للأمام تريد إنجاز أهدافها أو أهدافها الأساسية فإن من هذه القوى الحليفة من تتراجع إلى الخلف وتتوقف عن التقدم، بل أحيانا تتحول إلى قوة معادية لتقدم للثورة ذاتها.
من هنا ولكي لا تفاجأ القوة الثورية بالتغيرات الجديدة وكي لا تخسر رهاناتها في منتصف الطريق فتخسر الهدف المرجو؛ فمن الأفضل امتلاك الرؤية النظرية المسبقة لإمكانيات التحول والتناقضات الحتمية المصاحبة لمسار الثورة وتطورها، بحيث تزود القوى الثورية بالمنهج والرؤية والوضوح لما ينتظرها –أو يتوقع- في كل منعطف وقبل الوصول إليه.
إنها خارطة طريق، تُبين لنا سلفاً ما هي المحطات والمعوقات والمشكلات التي تنتظرنا في نهاية كل منعطف من منعطفات التاريخ والتغيير، فيجعل التكلفة قليلة والخسارة محتملة أو منعدمة، وهذا يشكل ضمانات لتطور آمن للثورة وإجراءاتها وقرا راتها..
إن القيادة تهتدي في تكوين هذه أو تلك الرؤية بالتجارب والخبرات والتعلم من دروس الثورات الشعبية التي تسبقها -على مستوى عالمي وإقليمي ووطني- حيث يمكن استخراج أهم المحطات والمعضلات التي تواجه كل ثورة شعبية في ظروف مشابهة أو قريبة الشبه من ثورتنا.
ونقارب المشكلات التي تواجه الثورة الشعبية اليمنية، أولاً من الزاوية الاجتماعية - الاقتصادية – السياسية:
فكرياً، كيف نكتب ونقرأ ونعلم سِفر ومفهوم الثورة الشعبية اليمنية؟
كل ثورة أو دعوة تقوم على وحدتها التنظيمية العقيدية، ولا يتوفر ذلك إلا إذا توحدت المفاهيم والمعاني والرموز والأحداث التاريخية وقيمة كل حدث، بما يجعل مفهوماً واحداً مشتركاً يجمع بين كل الاتجاهات، وعلى الثورة أن تكون بيافطات وشعارات مشتركة محل إجماع من النواة الأساسية التي شاركت في كل حدث من الأحداث والمواقف.
إنها معوقات على هذا الطريق، بكل تأكيد، ولكنها تقل كل ما كنا قادرين على صياغة مفاهيم ومعاني واقعية -متوافق عليها- لسير الأحداث والسير الذاتية والجماعية ومحتوى كل قضية أساسية.
نحن اليوم أكملنا العام الثالث للثورة الشعبية العظمى، ولا نجد بعد رؤية واحدة مشتركة، حولها فهناك قراءات عديدة محتملة حولها. كل طرف من الأطراف التي شاركت في الثورة -جزئياً وكلياً- تضع نفسها في المركز وتبدأ الأحدث من دورها والجماعة السياسية التي تمثلها.
ولذلك سيكون أمامنا عدة رؤى وقراءات للثورة، وهو ما يجافي الحقيقة، ولكنه يسمح بتغيير المواقف والأحداث مستقبلاً، بعد أن تكون الأحداث قد تقادمت، وبليت لصالح أحداث جديدة.
إن الحكم على الحدث يمكن أن يعطى مسافة زمنية لينضج، أما الحدث نفسه، فيجب التبكير في رصده وإثباته وما زال أصحابه نشطين مشاركين فيه، وقادرين على الإضافة والتعليق والنقد حوله لإغنائه.
أمامنا ثلاث رؤى محتملة للحدث، وبالتأكيد ليست كلها صحيحة:
لذلك، فإن الثورة الجديدة، ارتبطت بتطورات جيوسياسية جديدة لم تكن قد بلغت الذروة في السابق –في الثورات السابقة- فلم يكن لها هذه الأهمية التي اكتسبتها أخيراً نتيجةً للتطورات التاريخية الاقتصادية والاستراتيجية والجيوسياسية، التي جعلت المنطقة الشمالية -الشرقية والغربية- لها دوراً حاسماً وجديداً كلياً في التوازنات الاستراتيجية والاقتصادية القائمة، نتيجة اكتشاف النفط بكميات هائلة هناك فوق ما فيها من معادن وثروات زراعية وباطنية ضخمة عوضاً عن الموقع الحيوي الهام الجيواستراتيجي...، تتسابق الإمبرياليات الإقليمية الدولية للسيطرة ووضع اليد عليها فعلياً عبر إعادة رسم الخارطة والتقسيم الاقليمي بما يسهل ضمها وإلحاقها إلى الجوار الإمبريالي الخليجي.
ولذلك، فإن تحديات المنطقة والحركة التي ولدتها، قد دفعت بالثورة إلى المستوى الأقصى، لأنها أيقظت الدوافع الاستعمارية المتوحشة لاستئصال الأمة من جذورها.
ما علاقة الثورة 21 سبتمبر / أيلول 2014م بالثورة السابقة لها الأوسع مدىً التي تفجرت وانطلقت في العام 2004م وتواصلت دون توقف؟ لقد تشكلت الأخيرة استمراراً لها وفرعاً من فروع دوحتها الكبرى.
مما يعني، أن الثورة الشعبية المسلحة والسلمية كانت متصلة، فلم تكن 21سبتمبر إلا تحصيل لما تم انتاجه ومراكمته طوال العقدين السابقين من الثورة والتضحيات الهائلة للشعب في الشمال والجنوب والوسط، لكن دور الشمال كان الأكبر والأهم والحاسم، ويمكن ربطه بما هو أسبق، بمعارك ومقاومة حرب 94م ونتائجها وما قبلها. ولكن لنأخذ حقبة الحركة الثورية المعينة لأنصار الله.
فالثورة الشعبية الكبرى تشمل جميع الثورات خلال العقدين الأخيرين، منذ أن تفجرت الثورة في هباتها الأولى دفاعاً عن الشعب المستهدف بالعدوان العسكري السياسي البيرو قراطي في العام 2004م وتواصلت محققة انتصارات متتالية، ومازالت مستمرة.
ثورة 21 سبتمبر 2014م ليست منفصلة عن إطارها وسياقها التاريخي، ليست انقلاباً مفصولاً عما سبقه من أحداث وقوى حتى نذكره منفرداً كثورة منفصلة مستقلة بذاتها تغطي على باقي أحداث الثورة الكبيرة، وإنما يجب ذكره كذروة لبلوغ الثورة إلى قمتها الأولى الكبرى إلى السلطة السياسية وإسقاط الطبقة السائدة والسلطة الحاكمة السابقة وتحقيق أكبر انتصاراتها.
إن ما يجري الآن من قبل الإعلام السياسي -ولدى بعض القنوات والصحف والكتابات – بعضها بحسن نية- عن خبث سياسي وأيديولوجي.. إنهم يحصرون حدث الثورة الكبير في محطتها الأخيرة عام 2014م، ويجري نسيان ما قبلها من حركة ثورية، مقدمينَ تصوراً قاصراً مبتوراً ومُجتَزِئاً لمفهوم الثورة الشعبية، سيكون له أثر سلبي وتشويش كلما ابتعدنا عن الحدث وظهور أحداث جديدة في المستقبل.
من المؤكد أن قيادة الثورة العليا تستوعب أبعاد الثورة، لكني أعني القاعدة الثقافية الشعبية السياسية للثورة التي يتأثر تشكل وعيها تحت تأثير الإعلام والثقافة اليومية العامة التي تمر تحت سمع ووعي البيروقراطية السياسية التي لاتزال قائمة في المجتمع والإدارة.
البعض يحاول أن يصور الثورة في 2014 كانبثاق عن فبرير 2011 ليعطي لها شرعية سياسية وكأنها كانت تحتاج إلى شرعية كتلك، وهي التي ثارت باسم الشعب كله ضد كل الشرعيات السياسية الملتبسة والفاسدة والواهمة.
إن قوى الثورة كانت قد نزلت إلى ميادين الحِراكات الشبابية كطرف ثوري مستقل ومنظم بذاته يسيطر على مساحة كبرى في المجتمع هو صاحب الدور الأكبر في تفجر تلك الانتفاضات الشبابية، قبل أن تتحول إلى ثورة مضادة بأيدي السعودية والمخابرات الأمريكية والإخوانية والوهابية وعلي محسن وصالح وأجهزتهما حين تقاسما الانتفاضة في النهاية عبر حكومة الوفاق، الوفاق على الشعب.
لضرورات النشاط السياسي الرائج سوقه آنذاك؛ رأت الثورة اللجوء إلى المناورات وتشكيل الأحزاب والتنظيمات السياسية للتعبير عنها مباشرة وغير مباشرة، فكانت هذه التشكيلات في الساحة كلها امتداداً للثورة الشعبية القائمة ولا وجود لها بدونها، بكل معاني الكلمة.
ويجب عدم خلط الأرواق، وعدم ابتزاز الثورة مجدداً وبطريقة جديدة، فلم تكن الثورة مجرد حشد حزبي جديد، بل تغييرٌ شاملٌ في بنية السياسة والمجتمع الثائر، فكيف يدعي البعض أنه نواة لثورة هو امتداداً لها أصلا؟!
مَن هي القوى المحركة للثورة؟ أهي القوى المدنية السياسية والاجتماعية؟ أم قوى الريف القبلية الفلاحية الزراعية والأطراف المهمشة من البلاد والمقهورين وبقيادة الشريحة القبلية المسلحة اليمنية الفلاحية الشعبية الثورية الواسعة؟ أو المسحوقين الريفيين القبليين -أي أغلبية الشعب اليمني- بعيداً عن النخب القديمة وضدها من اليمين واليسار والوسط (البيروقراطية "الُمتـَبرجزة" التي تَحولت إلى أذيال لليمين والخارج والبيروقراطية الفاسدة في الداخل)؟
هي إذن من حيث ارتباطها الاجتماعي والطبقي والاقتصادي، هي ثورة الفلاحين القبليين والمزارعين والحرفيين والعمال الفقراء من بروليتاريا الريف لاستعادة الحقوق والحرية والكرامة والاستقلال والثروة الوطنية والأرض والعرض، فالسواد الأعظم من قوى الثورة كانوا ومازالوا قبائل فلاحية كادحة ريفية مسلحة، ضد الرأسمالية الكمبرادورية المدنية والبيروقراطية المدنية والعسكرية الفاسدة التابعة، وكانت هذه القوى الرجعية مركزها هو المدينة "المتَرسمِلة" الكمبرادورية التجارية البنكية المتوحشة، العاصمة وعواصم المحافظات، حيث تجمع التجار الكبار والمستوردين أو وكلاء الشركات الأجنبية –أي الكمبرادور- وما يسود في هذه العواصم من علاقات اجتماعية اقتصادية مضمونها الأول السوق والربح!
بينما يتشكل جيش الثورة ومجاهديها ومتطوعيها الحفاة، من أبناء القبائل الشعبية الوطنية الثورية -أي الفلاحين الفقراء–كادحي الريف– ضحايا الرأسمالية الطفيلية والبيروقراطية الفاسدة المدنية.
وبالنظر لواقع بيت الأحمر، فقد أصبحوا منذ الستينيات والسبعينيات قوة مدينة رأسمالية عقارية كمبرادورية وبنكية تابعة. لقد كانوا يقضون أيامهم في التنقل بين العواصم للترفيه ويخلعون "العسيب" و"الزنة" ويلبسون آخر الموديلات –والخلع هُنا كان لما يمثله هذا الزي من قيمة معنوية وأخلاقية أكثر من أي شيء آخر- وينفقون ويحيون كأمراء وملوك وكطواغيت وليس كقبائل فلاحين كادحين.
ويجب ألا تغيب عن البال هذه الوقائع الحقيقية ونحن نكتب عن الثورة وحقبها ومراحلها وتطورها.
يقع اليسار مجدداً في الانتهازية الفكرية الموروثة عن انتهازية القيادات المتلاعبة بالأفكار والمواقف والقيم والمفاهيم مخلفةً خراباً فكرياً هائلاً في الوعي الوطني. وهو الآن يحاول أن يقيم ويحقب الثورة الشعبية فيقع مجدداً في ثغرات لا تساعد على تطوير الثورة إنما ارتكاسها.
وأهم الاسئلة التي يثيرها اليسار بحسن نية في الغالب -وهو يخلص نضرياً- إلى التالي:
أن الثورة قضت على علاقات الاقطاع، وبالتالي فالعلاقات الجديدة السائدة للثورة هي العلاقات الرأسمالية!! وهو يحاول هُنا تَقدِيم الرأسمالية كبديل للإقطاع السابق! وأن يعيد مَوضَعةَ دوره في المشروع الرأسمالي الجديد، أي رسملة المجتمع اليمني المطحون! وهذا الطرح ذاته هو تأييد للطرح القائل: أن الثورة الشعبية هي رأسمالية الاتجاه والقيادة والبرنامج والحتمية التاريخية، وأن القوى القبلية الثائرة هي برجوازية رأسمالية ضد الاقطاع والبيروقراطية الكمبرادورية القبلية!
الرؤية الواقعية من خلال الاحصاءات الحكومية والحزبية-لليسار واليمين معا– تقول غير ذلك، كما أن تاريخ الحراك الاجتماعي لليمن منذ الستينيات وما بعدها كله وضّح حقيقة التطور وطبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المسيطرة على الاقتصاد في الريف والمدينة. وملخص الدراسات الاكاديمية الاقتصادية والأبحاث الاجتماعية المهتمة كلها تنصب على حقيقة واحدة تجمع عليها وهي مؤلمة لكنه الواقع –وهي الآتي:
أن اليمن بثورة أو انقلاب سبتمبر 62م قد حطم العلاقات السابقة للرأسمالية لبقية النظام السابق بعنف وقوة بعد أن أوصل الانقلاب العسكري للضباط –البيروقراطيين والإداريين- من أبناء البرجوازية التجارية الكبيرة والمتوسطة إلى السلطة، فأوصل البرجوازي الكبير الرأسمالية العقارية والبيروقراطية والتجارية الكمبرادورية إلى الحكم، خاصة عبر انقلاب نوفمبر 67م بتمويل سعودي معروف، حيث قضت أحداث أغسطس على الفريق البرجوازي الصغير والوسط في الجمهورية والثورة، لحسم اتجاه التطور الاقتصادي باتجاه كمبرادوري رأسمالي تبعي غربي إمبريالي بيروقراطي يحميه السلاح والدبابات.
واليسار الجمهوري الذي كان يشار به آنذاك إلى قيادة السلال وعبد الرقيب عبد الوهاب وعبد الحافظ قائد وسلطان أحمد عمر وعبد الفتاح إسماعيل؛ كان من أبناء البرجوازية الصغيرة الوطنية الثورية من الفلاحين والعمال والموظفين والجنود والكادحين المعادين للنهج الإمبريالي المعادية للإقطاع وللرأسمالية والاستعمار، وقد كانوا سياسياً مؤطرين في أحزاب اليسار المختلفة ومازالت هي هي..
الخلاصة هنا، أن اليمن قد قطع شوطاً طويلاً في سياق التطور الرأسمالي الإمبريالي الكمبرادوري التبعي البيروقراطي المشوه لصالح البرجوازية الكبيرة البيروقراطية التجارية العقارية الربوية الذي يعد الفساد أهم مصادر ثرائها وأساليب جنيها الأموال، ولذلك فإن علاقتها الرئيسية التي تنتج بها الأموال، هي أساليب الربى والإقراض والنهب العام والفساد والاحتكار والتبعية والاستعماروية، ومعها الاستبداد والفاشية والظلم والعمالة للسعودي والأمريكي كضرورة للاستمرار في وجه الشعب...
يتبع الجزء الثاني.