إنسانياً: يكفي القول أن إطالة أمد الحرب في اليمن ودخولها خارطة صراع القوى الإقليمية والدولية المتعددة تسبب في إخضاع المدنيين هناك لكثير من التشديد وسياسات الهجوم والتصعيد الخطيرة، واستخدامهم في اختبار مدى قدرة كل طرف في فرض هيمنته ونجاحه في ارتهان مصير ملايين المدنيين داخل اليمن - جلهم من الأطفال والنساء - لقرارات تعرض حياتهم للخطر الدائم والوشيك، والسعي لإبقائهم تحت طائلة النفوذ أياً تكن النتيجة، وفيما يبدو جلياً أن السعودية ومعها إيران لن تتخليا عن دورهما في اليمن من أجل ألا تخسر البُعد الجيواستراتيجي والعمق الذي يمثله نفوذ المحاور في المنطقة، ما أدى وفق تقديرات أممية إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الحادة وانهيار شبه تام لمنظومة التواصل والدعم الإنساني، وسط توجه سعودي تصعيدي أخير بدأ بإغلاق كامل المنافذ والموانئ الجوية والبحرية والبرية، وسحب السفن التجارية وسفن المساعدات التي كانت ترسوا في رصيف ميناء الحديدة، في خطوة اعتبرها المحللون وسيلة لتطهير حركة المرور إلى الميناء الأكثر حيوية في اليمن، قبل هجوم عسكري للاستيلاء عليه، ما يعني أن مؤشرات التدهور تواصل انحدارها بشكل مخيف وتنذر بكارثة آدمية محدقة.
بعد أن أفلتت سوريا من يد السعودية، زاد حدة القلق لدى المملكة من سقوط ساحات أخرى بيد المحور الشيعي، ما يجعل أي تطور عسكري تصعيدي جديد في المنطقة مدعاة لتضييق الخناق أكثر على المدنيين في اليمن، يستغل التحالف العسكري بقيادة السعودية التطور الأخير المتعلق بالقدرة الصاروخية اليمنية المتزايدة لتكريس فكرة الحق بفرض مزيد من القيود على اليمن، بمبررات خوفها من تهريب السلاح الإيراني عبر المنافذ والسواحل المفتوحة ووصولها إلى "الحوثيين" وحليفهم صالح، وهو في الأساس نابع من حاجتها لتغطية إخفاق التحالف وفشل قواته العسكرية التي أعلنت سيطرتها الكاملة في اليمن براً وبحراً وجواً منذ ثلاث سنوات دون أن تنجح في القضاء على شكوكها في احتمال تدفق السلاح الإيراني الذي يخترق السواحل الغربية أو المناطق الجنوبية والشرقية الخاضعة لسيطرتها وإيصالها إلى شمال الشمال حيث يتمركز الجيش واللجان الشعبية التابعة لسلطة صنعاء.
ثبت واقعياً أن الاستراتيجيات التي اعتمدها التحالف في تحركاته كارثية يدفع ثمنها المدنيون بدرجة أساسية وتتحمل السعودية مسؤولية ضخمة لهذه المعاناة، فهي تقوم منذ أكثر من عامين ونصف بحرب شرسة يتعذر الدفاع عنها في الأوساط الدولية ولا يمكن الانتصار فيها، والأسوأ من ذلك فرضها إغلاقاً كلياً للمنافذ البرية والبحرية والجوية الأسبوع الماضي، بذريعة منع إيران من شحن السلاح لـ "ألحوثيين" عقب إطلاق صاروخ باليستي أطلق صوب العاصمة الرياض، وإصرار المعلمي مندوب المملكة في الأمم المتحدة مساء أمس الاثنين على "أن التحالف سيواصل قطع طرق المساعدات الرئيسية إلى البلاد حتى يتأكد من أن أعداءه الحوثيين لا يمكنهم استخدامها لإدخال السلاح"، وهو الأمر الذي يحمل تداعيات كارثية، ويأتي في إطار خطواتها المرسومة أساساً لاستكمال تضييق الخناق ضد هذا الشعب، ما يشي بتطور إنساني متفاقم وخطير للغاية، ويجعل أبناءه يتجرعون فصول المأساة بعد أن تم إقحامهم ضمن إجراءات العقاب الجماعي انتقاماً لشعور التحالف بالإخفاق رغم ما تتمتع به من تفوق عسكري وتقني مطلق .
بالنسبة لليمنيين لم يعد مهماً إثبات ما إن كان الصاروخ الذي وصل مطار الملك خالد بالرياض يمنياً أم صاروخاً إيرانياً معدلاً، ما هو حقيقي أنهم ينتظرون مصيرهم تحت سقف المعاناة والتجاهل الدولي، بعد أن أصبحوا خاضعين لإجراء صارخ ينتهك المواثيق الأممية، ويتحدى التحذيرات التي أطلقتها المنظمات الإغاثية والإنسانية الدولية ضد إجراء يترك أكثر من 18 مليون من السكان المدنيين يواجهون المجاعة وفقدان سبل العيش وتفشي الأمراض القاتلة، وحسب "المعلمي" فإن التحالف يريد تشديد إجراءاته ولن يقبل بإعادة فتح موانئ اليمن قبل اعتماد آلية جديدة، ما يفسر أن السعودية وتحالفها ماضية في تحطيم كل الأدوات والجسور الدولية حتى تتأكد من أن إيران لا يمكنها الوصول إلى صنعاء تحت أي ظرف من الظروف .
في الجلسة الطارئة نهاية الأسبوع الماضي لمجلس الأمن حول الحصار الشامل المفروض على اليمن لا شيء استحوذ على الجلسة الأممية كعبارة "شاهدت أكبر أزمة جوع في العالم" وكأنها الاختزال الذي عكس حقيقية الأزمة الإنسانية في اليمن، والتي جاءت على لسان السيد مارك لوكوك، وهو وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، الذي زار اليمن أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والتقى باليمنيين في محافظات "عدن ولحج وصنعاء والحديدة وحجة وعمران"، وحسب لوكوك فإن السفر إلى جانبي الخطوط الأمامية للصرع ساعده على فهم العواقب المتتالية على المدنيين، مؤكداً أنه لتلافي حدوث كارثية إنسانية بالغة الخطورة يستدعي الأمر القيام وبصورة فورية على صرف مرتبات الموظفين البالغ عددهم 1.25مليون كونها المحرك الرئيس للاحتياجات الإنسانية، ورفع سقف المساعدات وتوفير الموارد الكاملة للاستجابة الطبية والإنسانية، ووجوب فتح جميع الموانئ والمطارات بما في ذلك ميناء الحديدة ومطار صنعاء، كحد أدنى للحد من تفاقم الكارثة، استخلاص الوكيل الأممي جاء في اللحظات الأخيرة سعياً لإحراز أي تقدم إنساني عاجل، وهي الزيارة التي جاءت بطلب سعودي عقب اعتراضها على إدراجها وتحالفها في القائمة السوداء لقتلة الأطفال، واتهمت الأمم المتحدة حينها أنها تعتمد على تقارير مغلوطة تصلها من المناطق الخاضعة لسيطرة صنعاء.
من السابق لأوانه الحديث عن حرب مباشرة بين العدوين اللدودين إيران والسعودية، ولن تعدم المملكة أو حتى إيران في ابتكار واختلاق الذرائع التي تستخدم المدنيين في اليمن في تفاصيل حربهما البادرة، بينما بات اليمنيون يدركون أكثر من أي وقت مضى أن أي نقاش يثبت أو ينفي ما يتردد في حرب التصريحات السعودية الإيرانية، ليس إلا بمثابة خلط الأوراق، وتغطية قصوى لكارثة قادمة لن يغفرها التاريخ، باعتبار أن اليمن لا يحتمل منحنيات جديدة، أو تحويله ساحة مركزية يشتد عليها صراع الفيلة، بينما الأبرياء من أبناء هذا الشعب الأصيل يدفعون الثمن بمفردهم، وبالمقابل يرى كثير من المراقبين أنه لا أمل بتحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة من قبل تحالف "عاصفة الحزم"، وأنها قد وصلت إلى حائط مسدود وأضحت بؤرة استنزاف طويلة ومكلفة جداً، دون أن تحقق أي نتائج مختلفة عما جرى في الثلاثة الأعوام من زمن الحرب .
من الواضح جيداً أنه ليس على أحد أن ينتظر من اليمنيين الخضوع أو الاستسلام أمام أي خيارات عسكرية، وأن معاناتهم تضع العالم أمام فرصة جديدة واختبار صعب يثبت فيها صدق مزاعمه الإنسانية، وعليه أن يقرر الآن ويختار بين إغراءات التحالف والرضوخ للضغوط التي يمارسها، وبين تسجيل موقف تاريخي وإنساني نادر، يترجم التزاماتها الأخلاقية تجاه المجتمع الدولي والإنسانية، وتغيير المعادلة لصالحها بعد أن ظل القرار الأممي (2216) بمثابة الترخيص والغطاء لحرب انحرفت عن مسارها، وتمضي في ممارستها وتحويل هذا البلد إلى دولة فاشلة، وحاضنة للفوضى الدموية، وبؤرة لصراع إقليمي متعدد واقتتال دائم يعصف بالمدنيين في لعبة "صراع الفيلة"، من يوقف كل هذا الهراء ؟ تعب اليمنيون من العبث بحياتهم، وحياتهم تعبت أيضاً من الصراخ ..!