لم تتوقف المعارك يوماً منذ بدأت الحرب العدوانية على الشعب اليمني منذ ثلاثة أعوام من الحملات المتنوعة براً وبحراً وجواً، نفسياً واقتصادياً وأمنياً. حرب يخوضها العدوان لا هوادة فيها ولا رحمة ضد الشعب اليمني المسالم الكادح وضد أرضه وتاريخه ومقدراته وبنيته.
وبرغم الأكلاف المتعاظمة يوم تلو آخر، يأبى هذا الشعب الأسطوري أن يتعب أو يكلّ من معركة المواجهة التي يخوضها بمصيرية وإيمان يجعل من الوجوب على هذا العالم المنافق والزائف أن يبني له ساحات التماثيل والمراسم لربما يتعلمون كيف يكونون بشراً لم تستلب إنسانيتهم.
راحت تتطور الحرب الوطنية من أبسط الأشكال إلى الأكثر تعقيداً وتقنية وفتكاً وتنكيلاً. وبعد أن نفذ صبر الأمة وخابت آمالها بأن يأتي موقف مشرف -أو حتى شبه مشرف- من المنظمات والجهات الدولية التي كشفت عن طبيعة "مافوية" مموهة بأثواب (القانون الدولي) و(حماية حقوق الإنسان)؛ صرنا نعرف تماماً جوهرها الحقيقي كآليه مموهة لترسيخ الاستعمار وتقاسم أراضي الأمم والشعوب الفقيرة والمهمشة بين الدول الكبرى الإمبريالية القديمة والجديدة.
وهكذا نعرف كيف أن شعوباً بائسة سبق أن سلخوا جلودها سلخاً بعد أن خدعوها وباعوا واشتروا بأراضيها ومصيرها واستلبوها استلاباً ومزقوها على موائد القمار والولائم بينهم وعملاءهم ووكلائهم.
ولذلك فإن شعبنا قد وعى الدرس جيداً ولم يعد يصدق أساطير تلك المؤسسات الاستعمارية التي ورثت عصبة الأمم الاستعمارية وأطماعها.
وصرنا نعرف أن النفس الطويل للشعوب، والصبر والإيمان إزاء قضيتها والمجالدة في الصعاب والكفاح، هو بلا شك أفضل ترياق للتكالب الدولي وتقاليده الإمبريالية بمواجهة الشعوب التي تتعإلى على أغلالها.
أما ما تعانيه البلاد اليوم من حرب اقتصادية شاملة ومن حرب نفسية انشقاقية ومن مؤامرات ومحاولات لشق الصفوف، فإنها تستدعي الحزم والمبادرة والصرامة والعزم وإظهار الثورة لأنيابها ومخالبها، فليست الثورات أبقاراً حلوبة ولا حملان وديعة، فالثورات حركة أسود بثباتها وإبائها، وإذا كشرت عن غضبها فإن السيوف لا يمكن إعادتها إلى أغمادها قبل أن تسقيها دماء الطغيان والخيانة والفساد.
وان الثورة اليمنية تنهج نهجا خاصا يحاول تجنب اللجوء إلى الصرامة في ضبط الامن وصون الحياة والكرامة للشعب وحراسة القضايا المصيرية للأمة. لكن ليس كل جشع عاقل ولا كل معتوه راشد.
ولذلك لابد للثورة أن تظهر عصاها في وجه كل خائن ومخرب وجاسوس ومتلاعب بالأسعار. فهذه القضايا تذبح صمود الشعب وتسفكه بدلاً عن مراكمته.
وعلى هذا المحور يجب التوقف قليلاً لتثبيت بعض القضايا الهامة:
إن التلاعب بأسعار النفط يجري بتواطؤ من بعض الوزراء في الحكومة الحالية، وهذا واقع ثابت تداوله في مواقع الإعلام الوطنية بصراحة وبالوثائق وكل الإثباتات. ووزارة النفط والغاز اليمنية هي المتهمة الرئيسية لارتفاعات النفط والغاز.
إن وزير الصحة قد أدين أكثر من مر ة من قبل الجهات المسؤولة في الدولة بأنه ظل يخفي الأدوية الحيوية والمطلوبة والتي الناس بأمس الحاجة إليها وتتوقف حياتهم عليها، في مخازنه الخاصة.
مازالت ستون مليار ريال من إيرادات وزارة الاتصالات لم تصل بعد إلى الخزانة العامة للدولة، و منذ ذلك الوقت تضاعفت المبالغ التي لم تورد إلى الخزانة العامة. وها هو وزير النفط لم يورد ما يقارب أكثر من مليار ريال إلى الخزانة خلال الأسبوع الماضي!!.
إن هناك أكثر من 3000 قضية فساد مقدمة من جهات رقابية إلى القضاء ولم يفصل الأخير فيها أو النظر إليها.! لأنه مخترق بالحزبية وبسوء الضمير وبالفساد ويتوجب تغييره واحالة كل فاسد فيه إلى الحساب.
فكيف يراد اصلاح الأوضاع بأجهزة سبق اثبات فسادها وجرمها طوال خمسين عاماً!
إن هناك أكثر من 162 قضية تلاعب بالأسعار تخص عدد من المحطات البترولية والغازية مقدمة إلى المحاكم والقضاء لكن القضاء يرفض استلام أي منها، بينما المواطن عليه أن ينتظر طويلا حتى يعود القضاء إلى رشده!
إن عدد من وزراء المؤسسات الإيرادية كالنفط والاتصالات والصحة قد تكررت جرائمهم بحق الشعب وفي قوته وأمواله ودمه. وسبق لهم من أشهر أن حولوا أموالاً طائلة تصل إلى مئات الملايين من الريالات من أموال الدولة الذي بين أيديهم إلى اغراض حزبية وخاصة لا علاقه لها بأي من اولويات الدولة والوطن والمواجهة للعدوان.
خلاصة الموضوع الجاري أمام أعيننا أن أصل المصيبة الاقتصادية سياسيٌ كامن في فساد أغلب وزراء الحكومة الحالية ،ولا داعي لصرف انتباه الشعب بعيداً بأن تصعيد بن سلمان هو سبب الأزمة حسب كما تصور بعض القنوات الإعلامية، فالحقيقة الواضحة أن الشعب يشكو من هذه الحكومة منذ أشهر. إن السلطة الحقيقية للحكومة هي معقودة بقوة النفوذ والفساد.
ازدواجية السلطة تصيب المجلس السياسي بمقتل فهو إذا اراد أن يتخذ قرار تغيير مُلح تتصدى له قوى البيروقراطية الفاسدة الداخلية لتعطيله، وإذا تجاوزها واتخذ القرار سارع البرلمان إلى معارضته وابقائه بلا قيمه أو معنى. حدث هذا في موضوع اللجنة العليا لمكافحة الفساد. كما استخدم البرلمان صلاحيات ليست له، وعطل قرار إصلاح لجنة مكافحة الفساد حين قام بإصدار قرار بالتمديد للجنة القديمة المتورطة في الفساد من رأسها حتى أخمص قدميها.
لا نجد أي مبرر لسكوت وصمت القوى الوطنية لما يجري من فساد حكومي وسياسي إلا الخوف والحرص على عدم توتر الموقف الداخلي وعدم انتقال الصراع إلى البنية الداخلية للشركاء السياسيين، وهذه هي العلة بعينها فالخوف من وقوع الشر أشد مرارة من وقوعه.
وهناك من الشركاء من هو أشد كراهية وحقداً ولؤماً وجشعاً من العدو في عدواته المضمرة ونفاقه الطويل، وشراكته عبءً أكثر منها تخففاً وفائدة وجدوى.
وقد تورط مجلس الراعي بأشد الأشكال فجاجة في الالتفاف على استقلال الوطن والعمل مع العدوان بشكل غير مباشر عبر المبادرة الاستسلامية التي اعتمدها وسلمها إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها. وأبشع ما فيها جوهرها الذي يقر بتسليم المنافذ والموانئ والمطارات إلى العدوان عبر الوسيط لدولي –المموه– وهي عمل غير وطني يستوجب المحاكمة والعزل وتجميد عمل مثل هذا المجلس القادم من بقايا الفساد، فلماذا الثورة تواصل هذ الهوان بها وبقضاياها؟
إذا كانت مسألة الشرعية هي ما يقلق الثورة وسلطتها فإن الشرعية هي شرعية شعبية ثورية وافرة الآن من خلال الشعب المقاتل في الجبهات وساحات المواجهة والصمود وكل اجتماع شعبي وطني هو بمثابة اجتماع شرعي ثوري على الثورة أن تمنحه الاستمرار والقوة والسلطة ومنه تنبثق السلطة التشريعية الحقيقية.
جميع الثورات الكبرى الأصيلة قد تميزت برمز مكاني سيطرت عليه، يشكل علامة فارقة بين العهود السابقة والجديدة. في الثورة الفرنسية كان الباستيل السجن القلعة في قلب باريس الشهير هو رمز الثورة وإشارة فوران عنفوانها وتحديها لجور الماضي وطغيانه وفساده وإشارة إلى غضب الشعب وسخطه واستعداده لحسم الصراع بطريقته البسيطة العامية. كان هذا بعد أن مل الشعب من تلاعب السياسيين البرلمانيين بالكلمات والصياغات القانونية والدستورية وعن الشرعية واللاشرعية وما يجب أو لا يجب وما يحق أو لا يحق ،وهو نفس ما تفعله مناورات اليوم من قبل أولئك المترفين الذين أرادوا أن يجعلوا من ثورة الشعب أدوات مساومات بين أجنحتهم، فقطع الشعب الثوري عنهم الخطابات والمناقشات العبثية وبعدها اقتحمت عوام باريس الجياع الحفاة، وبعد أن سيطروا على القلعة الشهيرة استولى الرعب على جميع البلغاء المحتالون على الثورة وسرعان و ما تسابقوا على إعلان الجمهورية أخيراً عامين بعد من الثرثرات القانونية منذ بدء الثورة في 1789م.
كل ثورة تحتاج لإثبات وجودها وهيبتها وعنفوانها وسلطتها على رموز مكانية وعملية تكشف فيه عن تجليها وعزيمتها واستعدادها لمنازلة أي قوة في الأرض بلغت ما بلغت من قوة وطغيان وبكامل الوضوح.
وفي الثورة الروسية كانت السيطرة على "قصر الشتاء" الشهير هو أول عمل قامت به الثورة لإثبات سطوتها، وهو قلعة القصر الإمبراطوري الضخم الذي سفكت على أبوابه في الثورات السابقة عشرات الآلاف من دماء وأرواح العمال والفلاحين الثائرين.
وفي الثورة الكوبية كانت السيطرة للثورة على قلعة المونكادا، وهي رمز عنفوان الثورة بقيادة كاسترو الشاب ورفاقه.
في كل ثورة تحتاج إلى انتزاع جميع مواقع السلطة والهيمنة المادية والمعنوية، وأن تفرض وجودها وسلطتها. إذ أن أعداء الثورة يتحينون الفرصة دوماً لاستغلال أي وهن يظهر عليها وقواها.
لا فرق بين المنطق الديني الحقيقي والثوري الحقيقي، وكلاهما منهجان مخلصان صادقان فهما يعبران عن محتو ى واحد في ظروف تاريخية ثقافية متباينة، أما الجوهر واحد، البحث عن العدالة في رحاب الحرية والكرامة الإنسانية.
وليس من الالتزام الاقتدائي في شيء تكرار المواقف التي كانت نتائجها فاشله في السابق، ولو تمّت على أيدي القادة الكبار والمحصنين والاتقياء والمعصومين. تكرار نفس الأساليب التكتيكية العملية التي قادت إلى الفشل وخسارة المعارك، فمثلاً ليس من الحكمة والمنطق والفطنة والضرورة تكرار موقف التحكيم في صفين والخديعة التي وقعت يومها، ومرت بسبب تخاذل من هم في صف الإمام علي الذي كان في موقف المضطر.
فعلى الثورة أن تحمي نفسها من منطق الأصولية السلفية الذاتية التي تصاحب كل ثورة متقادمة في التاريخ، وليست هناك ثورة أطول من الثورة الإسلامية.
كان الإمام الخميني أول من ثار على العقلية السلفية الخيالية التي كانت سائدة في الحركة الاسلامية الثورية، فاكتشف الثوار فجأة أن الإشكالية ليست في الواقع فقط، بل في الطريقة التي فكروا بها. وما أضافه الخميني وأنتجه من اجتهاد وجوهر في بضع سنوات أهم ربما مما انتجته الحركة في قرون.
وأهم معيار هو ميزان الواقع التاريخي. و(عين على النص القرآني وعين على الواقع) كما قال الشهيد القائد. وهو يؤكد على النهج الموضوعي الجدلي للحركة الثورية، فلا حركة ثورية بلا منهجية ثورية. وسلامٌ على الشهداء والثوار والحكماء.