لازال محمد بن سلمان متمسكاً بحرب اليمن التي يقودها منذ نهاية مارس 2015 عقب ثلاثة أشهر من تولي والده عرش المملكة، ومثلت بالنسبة إليه فرصة نادرة خدمته كثيراً في تعزيز نفوذه وسطوع نجمه محلياً ودولياً، ولا تزال الجزء الأهم في استراتيجيته ومستقبله المنظور حتى بعد أن بات ولياً للعهد، تحركاته الأخيرة التي تسير وفق مسار متناقض مع الدبلوماسية الغربية التي تكثف تحركها باتجاه فرض الحل السياسي في اليمن تفصح عن توجه علني لـ بن سلمان لاستمرار الحرب واستثمار تطوراتها في مشوار الوصول إلى سدة العرش، والعمل على تكييف تفاعلاتها شديدة التأثير واستخدامها سواءً للمناورة وتغيير الحسابات، أو للقيام بإنجاز ترتيبات تدفع بتغييرات ضخمة كالإدخالات الجديدة على قالب المملكة المتدين، التي يقوم بها ولي العهد استكمالاً للدور والتوجه الذي يراعي الرغبة الدولية قبل أن يتم تتويجه ملكاً للبلاد، ومثلما أن الاندفاعة الشديدة في شكل ومستوى التدخل العسكري في حروب المنطقة زادت من المخاطر المحيطة بالمملكة، فإن تعهد بن سلمان بـ”مملكة معتدلة ودولة متسامحة ومنفتحة ” يعد بمثابة حرب مفتوحة مع السلطة الدينية التي يقودها رجال دين نافذون في المجتمع السعودي المحافظ، ويذهب البعض في وصف توجه ولي العهد بالانقلاب الأبيض على التيار الراديكالي الشريك في الحكم السعودي بطريقة أو بأخرى، وهو انقلاب يوازي انقلاب سلمان على أسرة آل سعود في يونيو حزيران الماضي حينما تم الإطاحة بابن أخيه الأمير محمد بن نايف لصالح نجله، ونقل الحكم إلى فرع واحد من أبناء الملك المؤسس في الجيل الثالث وليس في العائلة المالكة، ما يعد الانقلاب الأخير تطور إضافي على مستوى من الخطورة والتهديد للمنظومة التي تقوم على أساسها المملكة.
استغل الأمير الذي أوشك على أن يصبح الملك الثامن لمملكة آل سعود حرب اليمن للاستمرار في مواصلة تغيير الملمح العام للملكة، وإخراج سياستها التقليدية الآمنة إلى دائرة المخاطر وخوض المجازفات الغير محسوبة، علاوة على استنفاذ خيارات المملكة وإهدار مخزونها الاستراتيجي من النفط والصندوق السيادي والنقدي، وإنفاقها لإقامة تحالفات وائتلافات متعددة الأطراف تتعدى الدول الإسلامية وتتجاوز المنطقة الجغرافية، والتي أخذت تلك التحالفات تتركز بأبعادها الإقليمية والدولية في حرب اليمن، حين تم إطلاق أول تحالف تقوده المملكة ضد شعب العروبة في مارس آذار 2015، ورغم تراجع تلك التحالفات وتعرضها للتفكك ومحاولة التغطية على مأزقها في اجتماع الرياض الأخير الأحد الماضي الذي ضم رؤساء هيئات الأركان العامة ووزراء خارجية لـ 13 دولة باعتباره الأول من نوعه، هدف مضمونه مهاجمة إيران واتهامها بعرقلة المسار السياسي في اليمن، وإيصال رسالة بأن المملكة لازال بإمكانها أن تحشد ما تريد والاعتماد على نفوذها، ورغم خواء هذه التحالفات إلا أنها أسهمت بتعزيز حضور ولي العهد داخلياً وخارجياً، وحقق بها بن سلمان العلاقة النهائية التي تربطه بمصير ومستقبل المملكة، بعيداً عن المآلات الخطرة التي تمثلها مآثر الحروب على المملكة، وآخرها الائتلاف المناهض لقطر والذي تسبب بتصدع كبير في جدار منظومة مجلس التعاون الخليجي يصعب ترميمه بسهولة، إضافة إلى مخلفات النتائج السلبية لعوامل الصراع السياسية والأمنية الناتجة عن الركض خلف النفوذ والهيمنة على المنطقة وإجبار دول الجوار على التماشي مع رؤية السعودية وتصورها للمستقبل.
هناك إدراك من قبل ولي العهد السعودي بأن معركته الحالية هي مع السلطة الدينية المؤسسة للمملكة بالشراكة مع جده المؤسس الراحل عبدالعزيز آل سعود، والتي يتعارض منهجية ممثليها من رجال الدين والتيار الراديكالي مع التوجه الحالي الهادف لإحداث تغيير لافت في واجهة المملكة والانتقال بها إلى النسخة السعودية الجديدة من الإسلام المعتدل والانفتاح على السياحة المندمجة مع ثقافات غربية، واستحداث هيئة للترفيه مهمتها إحداث طفرة من الصخب والجو الغنائي والفني داخل السعودية، ما يعده العارفون بالتركيبة السيكولوجية للمجتمع والنظام السعودي بمثابة حرب معلنة مع التيار الذي يحتفظ برغبة جامحة في مقاومة الانفتاح المفاجئ الذي سيخرجها عن محددات المنهج الأساس الذي تقوم عليه بلاد الحرمين.
تاريخياً : لا أحد من ملوك السعودية تجرأ في خوض صدام مباشر مع رجال الدين ممن يمارس سلطته الدينية بنسبة موازية للحكم السعودي، ولا تزال أول تجربة للانفتاح التدريجي السعودي في العام 1979 حاضرة في مشهد حكم آل سعود، والذي تلقى فيها الحكام السعوديون ضربة قوية، حيث فرض متطرفون حصاراً على أقدس موقع في مكة المكرمة لمدة 15 يوماً، حيث نفذ الهجوم من قبل مسلحين معارضين للانفتاح الاجتماعي في ذلك الوقت، ورأوا أن ما يحدث غير إسلامي، ولأجل استرضاء شريحة محافظة كبيرة من المواطنين تم غلق دور السينما، ومنع النساء من الظهور على شاشات التلفزيون الحكومي، كما شجعت الشرطة الدينية “هيئة الأمر بالمعروف” وتم منحها صلاحيات أعلى من قدراتها، وتتدخل في أدق الخصوصيات، وهي لا تزال قائمة حتى اللحظة بذات القيمة، حتى وإن تم تقليص نفوذها إلا أنه لازال في إطار محدود للغاية .
ومن هنا يتجلى الدور الجديد الذي يعتمده بن سلمان في إثارة ثغرات جديدة في جدار حرب اليمن، واختياره هذا التوقيت الذي له علاقة بالحرب الدائرة هناك منذ نحو ثلاثة أعوام وهو يحاول تصوير مشهد مقلق يعكس حقيقية حجم الانهزام الذي خلفته “عاصفة الحزم”، وكأننا بصدد بداية جديدة لحركة أكثر قوة ونفوذاً، ما يعني أن تلويحه الأخير بتحول الحوثيين إلى حزب الله آخر جنوب المملكة، يأتي في إطار استغلال حرب اليمن واستهلاكها في تعميق وتأصيل الخطر الشيعي “الواهم” الذي يتهدد المملكة وقد يضر بسلامة نهجها السني السليم في حال تمدده، يساعده في رسم هذا المشهد آلة الدعاية الضخمة التي تغذي هاجس الخوف من هذا الخطر القادم ـ حسب تصور ولي العهد. بينما في الحقيقة يستخدمها لإخماد صوت رجال الدين والعلماء، بل وضمان استعدادهم لاستصدار فتاوى بديلة عن فتاواهم النافذة، والتي عادة ما يتم تدعيمها بنصوص من القرآن والسنة .
بعبارة أخرى: تبدو المبالغة بتحول الحوثيين إلى حزب الله آخر بعد استهداف وقتال شرس دام ثلاثة أعوام يعتبره نخبة المراقبين ذريعة كفيلة بتمرير قرارات ولي العهد الانفتاحية دون أن تلقى معارضة جديدة من قبل المؤسسة الدينية التي أعلنت تأييدها لغالبية الإجراءات الحكومية ذات الخصوص.
نشر هذا المقال في صحيفة "رأي اليوم" اللندنية: