يعيش اليسار اليوم وضعاً كارثياً معقداً، تتكشف في هذا الموقف من العدوان الإمبريالي الكوني على الوطن. ولا شك أنه دخل في مسار انحداري مخيف ينذر بأسوأ النهايات.. وهو ما يتطلب مناقشة الوضع الذي يعيشه اليسار وموقعه من المتغيرات الوطنية الراهنة.
لا يمكن الحديث عن الحركة الوطنية اليمنية خلال القرن الماضي دون الانطلاق من دور اليسار التاريخي باعتباره صاحب الدور الحاسم في قيادة معارك التحرر الوطني والاجتماعي على طول العالم الثالث ومنها منطقتنا. ومنذ الخمسينات بالذات لا يمكن الحديث عن الحركة الوطنية في اليمن إلا في إطار منظومة اليسار الوطني والقومي والأممي، إذ أصبحت الحركة الوطنية جلها هي اليسار، مقابل تساقط بقية الأجنحة اليمينية والوسطية والانتهازية في خنادق الاستعمار بدعوى النضال السلمي ضده، لإقناعه على تسليم الاستقلال والخروج في إطار الاحترام المشترك والحوار الحضاري!! (الأصنج - باسندوة- الجفري...إلخ).
وهذا التاريخ الوطني لا يمكن لليسار الحالي التنكر له، مهما حاولت رموزه الانتهازية أن تفعل ذلك بقذاراتها الاستعمارية. ولا يمكنها التهرب مما يحتمه هذا التاريخ من مسؤولية ووفاء لواقع اليوم الثوري الوطني، وإلا فإنها تقف في الضد تماماً مهما حاولت تلوين وتقنيع وإلباس صور وأشكال براغماتية أمام الجماهير.
اليسار ليس قبيلة أسرية متضامنة على الحق والباطل، أو عصابة ومافيا مالية أو سياسية لجماعة تدافع عن بعضها البعض بالصدق والكذب.
إن ما أوهن اليسار، ليس اليسار، وإنما انحراف الزعماء البيروقراطيين السلطويين المنقادين خلف السلطة والربح. وهي ليست تجربة ذاتية يتأتى خلعها كلما تغيرت الظروف السياسية، بل موقف موضوعي لا خيار دونه إن أردت تحرير بلدك وشعبك، تحريراً كاملاً من كل أشكال التبعية والارتهان.
والتحرر الوطني للشعوب وللطبقات المظلومة انتاج يساري بامتياز، فلم تتمكن قوة تحررية إلى اليوم أن تحقق تحرر بلدها حقيقة إلا بالموقف اليساري بما في ذلك الإسلاميين التحرريين والمسيحيين التحررين واللاهوتيين التحرريين.
ولم تستطع أي قوة للآن أن تقدم طريقاً آخر لتحرير الشعوب إلا طريق القوى اليسارية الحقيقية؛ فالحركة الخمينية والإسلامية اللبنانية والشيعية الثورية...، ما هي إلا حركات يسارية ثورية بأيديولوجية دينية تحررية.
اليسار ليس فلسفة فقط، إنما حركة ثورية تمثل أشواق وطموحات الجماهير الشعبية الفقيرة المستضعفة الكادحة في الثورة على الظلم والجور، ومهما اختلفت التأويلات والمفاهيم والمعاني للدين ولليسار، يظل الجوهر هو الثورة على الظلم والجور والانتصار للمستضعفين وخدمة الإنسانية واحترامها.
اليسار موقف ثابت من هذه القضايا، يجري التعبير عنه بلغات مختلفة في كل عصر لكن بجوهر واحد. وكل من يتخلى عن المبدأ اليساري يتخلى عن كل شيء في قضيته.
إذاً، كيف يمكن ادعاء اليسارية والوطنية، وأنت تقف في الصفوف المقابلة للشعب والوطن؟!!
وما يجري في الجنوب اليوم، هو نتاج لنشاط وموقف اليسار الانتهازي والبيروقراطي، وموقفه الجديد المتناقض مع الموقف القديم، والناجم عن الاختراق الخليجي الأمريكي البريطاني، من القضايا الوطنية والاجتماعية وموقفه من الاستعمار.
في ظل العدوان والاحتلال الامبريالي السعودي الأمريكي الصهيوني البريطاني "الناتوي" على شعبنا اليمني، أكان لليسار غير هذا الشعب؟ أم له شعب آخر؟ أكانت هذه قضيته أم له قضية أخرى؟ أكان معني بالمليون صاروخ المتساقط على رؤوس الناس أم لا؟
قيادة اليسار الرسمي الآن، كلها تقف أمام امتحان أخلاقي وسياسي ومبدئي ووطني، وعلى الرغم من الاعتقادات الطيبة في أن يتحسن موقفها، راحت التطورات نحو الأسوأ، وتحول الموقف من الإيهام بالموقف الوسطي المحايد والموقف الثالث –بين القوتين كما يحاول البعض الإيهام مع الأعضاء البسطاء المحبين الطيبي النوايا– إلى موقف واضح الإفلاس والتحول اليميني إلى صفوف العدو علناً ودون أي خجل. ولم تكن تلك الادعاءات إلا خلطاً للأوراق وتضليلاً عن الموقف الوطني والصراع القائم وقطع الطريق على اليسار الحقيقي، وتقسيماً للصفوف والوحدة والوطنية في مواجهة أعداء شعبنا وأمتنا وإنسانيتنا.
وطيلة هذه المدة، كان الصمت لباقي القيادة، هو عجز عن القول الصريح بأن مصالحهم وارتباطهم قائمٌ مع أعدائنا، مع العدوان الإمبريالي على الوطن. وهذا العجز نابع من الإدراك العميق بأن لا مبررات يتم الانطلاق منها لإقناع الناس بهذا الموقف، واتباع أسلوب المناورات والتهرب والخداع، لتجنب كشف حقيقة هؤلاء المتغربين في أخلاقهم وقيمهم وأطباعهم وحياتهم.
وفيما كانت أبواقهم وأدواتهم تروج وتضلل ضد القوى الوطنية والموقف الوطني، كانت الاتفاقات والترتيبات تجري بعيداً عن النور بينها وبين دول الاستعمار. وأخيراً جاء الإعلان عن ذهابها لمخادع العدو والتقاط صورة لهم كتأكيد يفرضه العدو عليهم لعدم التراجع.
وعلى الرغم من كل ما يتكشف، يبقى البعض متعلقاً بما يدعى الشرعية للقيادة، الأزمة المستحكمة لدى اليسار الاشتراكي، الشرعية القائمة على الانقلابات والحروب منذ عام 80م حتى اللحظة، القائمة على الفرض القسري للقرارات والمسار والموقف.
ويجب التساؤل: أيمثل الموقف الحالي لهؤلاء القادة الزائفون موقف اليسار الحقيقي؟
قطعاً لا؛ فالمرجعية والشرعية للموقف اليساري، كامنة في الوثيقة التأسيسية الأساسية لليسار، وكل ما تقوم به هذه القيادات هو على تضاد تام لها، هي على موقف الخيانة الصاخبة لها ولكل ما مثلته من تاريخ ونضال وقيم وتضحيات وأحلام نسجت من المعاناة والألم.
إن استلامها على مدى عقدين وأكثر الأموال من (اللجنة الخاصة) السعودية هو خيانة، انسلاخها عن برنامجها الوطني وتحريفه هو خيانة، الاعتراف بالمشاريع التفكيكية والتقسيمية للجنوب ولكل الوطن هو خيانة، أيا كانت الذريعة.
ياسين، الرجل الذي قاد قطيع اليسار طيلة سنوات عشر، وهو يخادعهم، مخفياً أداءه وأفعاله وتخطيطه لصالح العدو، وليس هبة وطيبة، تم إصدار قرار ملكي سعودي بعد حرب 94م لياسين و5 آخرين بمنحهم رواتب أمراء كبار من البيت المالك السعودي. وبعد أيجوز هذا في عرف الوطنية والاشتراكية؟! أيمكن الوثوق برجل -وما ترتب عنه- يستلم الأموال من العدو؟!!
ولا بد من اعتراف اليسار، أن تركيب ياسين على هرم الاشتراكي منذ الوهلة الأولى، هي أكبر جريمة ارتكبها، وأكبر نكبة حلت باليسار في تاريخه بما في ذلك نكبة يناير، وكانت جريمة يتم التبرير لها وتجاهلها باستمرار. ولهؤلاء الذين يعدونه قائدهم، فإن اعترافهم بالأموال المتسلمة -من باب المغالطة- بأنهم يستفيدون منها، فهذا يرتب جريمة أكبر بجر الحزب لصالح السياسية السعودية العدو التاريخي للوطن، وإذا قالوا أنها كأموال أخرى تأتي من سفارات أخرى لبعضهم على شكل دعم باسم الحقوق والمدنية...، فهذا اعتراف بجريمة جديدة تتمثل بإباحة السلوك المشين التبعي للعدو التاريخي، تحت تبريرات فاسدة، وتأجير لموقف الحزب، وشرعنة للخيانة، الخيانة التي أكدها الموقف الحالي مع العدوان.
شاءت السخرية، أن يصير للعدوان على الشعوب شرعية! يسارية واشتراكية وبعثية وناصرية وقومية! إنها نكتة سمجة ومثار سخرية واحتقار للشرفاء الوطنيين، صارت التسميات بعد أن كانت تثير هلع المستعمرين والمستبدين ومصدر تشريف ولقب تضحيات سقط تحت رايته آلاف المناضلين بسكاكين هذه الرجعية التي يخدمها اليوم (تنابلة) السعودية والخليج.
حسناً، ما هي الشرعية التي تتحدثون عنها ولا يعرفها شعبنا؟ الانقلاب؟ أي انقلاب؟ وعلى من؟ وما شرعية هذا المسخ الذي كان يحكم البلاد ومن أعطاه شرعية أبدية لاستعباد الشعب؟ وبأي دعوى جاء وجئتم معه؟ وهل الشرعية أبدية أم مؤقتة محددة بزمن محدد؟ ثم أنه، من أعطاكم أنتم الشرعية والصلاحية لتمديده فترة بقاءه؟ أو حتى اختياره؟!
كل هذه الاسئلة باتت إجاباتها معروفة وبسيطة.
إن الشرعية الوحيدة هي الثورة الشعبية الوطنية التحررية في اليمن بشكل عام، ولا شرعية لمن خانها وسلمها لعدوها.
لقد قاسموا السلطة على مدى عقد وأكثر، ثم رأوا ما رآه العدو، ثاروا بأمر، وباعوا بأمر، وبالمال، وللمال وحده، وقعوا على مبادرة العدو، وختموا على صك استعباد الشعب، ولا جدل أن ما قُبض من أموال للتوقيع، هو رشوة سياسية وارتزاق، ولا تحتاج المسألة لذكاء لإدراك ذلك، بل لقليل من الدم الحر والنخوة الوطنية وشيء من الشعور بالآدمية.
وأي شرعية قادمة بمباركة الاستعمار، الإمبريالية والصهيونية وأدواتها، ساقطة ويجب أن تسحق، قادمة على برك الدماء والأشلاء والمؤامرات والقذارة السياسية وعهرها، هي ساقطة لا محالة، ولا اعتراف بها.
إن الشرعية هي للشعب، وأيلول 21 بملايينها لها كل الشرعية، وهو ما جلب عليها كل العالم يقاتلها ويحاصرها ويفتك بها، لم يباركها، بل لعنها، لم يغنّ لها، بل بكى وهو يراها تسقط معمدانات التطبيع خاصته، وتسقط أرجوزاته، ومخادعه، ومواخيره.
كان اليسار داعياً لوحدة الوطن، كشرط لنضوج الثورة وأدواتها وانتصارها، ولم يكن الجنوب ليتحرر لولا الوحدة التي صنعها اليسار بين المجتمع شمالاً وجنوباً ووحد نضالهم ورسخ للوعي الوطني والتحرري.
مؤامرة الانسلاخ البريطانية السعودية التي تجري الآن، ليست جديدة، بل بدأت منذ القرن التاسع عشر، لسلخ عدن وحضرموت والجنوب بأكمله عن المحيط العربي والقومي، وتمزيق اليمن إلى كانتونات تناحرية
وكانت بريطانيا، قد شعرت مع تصاعد الثورة القومية العربية، أن أيامها في البلاد قاربت على الانتهاء، وسترحل قريباً، وهنا راحت تجمع عملاءها من سلاطين وأمراء لإقامة كيان سياسي يعترف به دولياً لتأبيد التشطير وقتل أي مشروع للوحدة اليمنية، وهو المشروع الذي أطاحت به الحركة الوطنية اليمنية بزعامة اليسار على امتدادها بين الشمال والجنوب.
وأنيط بالسعودية، آنذاك، أن تشرف هي على الكيان الذي سيتم إنشاؤه، وستقوم بـ "تلغيمه" بالأيديولوجيا "الوهابية" والإرهاب، واستبدال الهوية الوطنية واجتثاثها وسحق أي روابط وطنية واجتماعية مع الشطر الشمالي الذي ستسعى لاحقاً لالتهامه بعد تطويقه واختراقه التدريجي.
وها هو المشروع نفسه يعود اليوم بصور جديدة، على الدبابات البريطانية الأمريكية السعودية؛ لكن الملفت هو أن العائدين اليوم لإعادة المشروع وتصفية الحساب مع الثورة والاستقلال والوحدة ومع الوطنية اليمنية ومع كل القضية الوطنية التحررية، ليسوا السلاطين وحدهم، بل هذا اليسار البيروقراطي الفاسد وبلون أحمر فاقع، الذي طردهم في السابق عندما كان وطنياً، والذي كان يقاتل الإنجليز آنذاك والسلاطين وصار اليوم مطايا لهم، مشوهاً شعارات اليسار ونجومه الزاهية (نجمة تقود البحر) وتاريخه النضالي المديد وكل شيء جميل بنته أجياله الثائرة.. وما أكد هذا المستجد، هو ذهاب قيادة الاشتراكي للرياض، وفي اللحظة التي بدأ فيه المشروع العسكري للتمزيق بدخول الأطراف الحقيقية خلف العدوان على وطننا، في إشارة واضحة على التورط القيادي لليسار في هذا المشروع، ودأبها منذ زمن لتحقيقه ظناً منهم أن الاستعمار سيقوم بتنصيبهم حكاماً، وقد حاولت الاختباء والمراوغة، حتى ظهرت للصورة وأماطت اللثام عن وجهها الحقيقي القبيح، مع بدء المشروع الاستعماري في الجنوب.
كنتيجة لاختلالات مزمنة، وتراكمات تاريخية كارثية، واختراق واسع للمصفوفة الحزبية، وانحراف شامل عن المسار الوطني النضالي الثوري، انتهى الحال بهذا اليسار القائم: بين أحضان أعدائه، من مقاوم إلى مستعمر، من مستضعف إلى ظالم، من مناضل إلى مترف مترهل، من مسحوق إلى موجه لجنازير الدهس الإمبريالية، وراح بعض أبناء الشهداء القادة المناضلين اليوم يقودون بعد مسخهم من قبل هؤلاء الزعماء الزائفين يقودون حملات تطهير عرقي وفاشي لإخوتهم في المحافظات المجاورة تضمنت تعذيب وتنكيل بشع وقتل...، في حملات لم يصل إلى مستواها حتى الانجليز أنفسهم في الماضي.
لقد وجه هذا اليسار الدمية نحو جبهته الرصاصة الأخيرة لموته. وفي كل موت حياة أخرى، وعزاؤنا للذين لم يستفيقوا بعد، ولم يسمعوا الجنازير قادمة إلا حين تبلغ أجسادهم، وتبلغ أوهام الحصول على دولة خارج الدولة اليمنية الواحدة، التي لن تكون حتى لو استعمرت سنين طويلة، واستقدم إليها كل صنوف المرتزقة والإرهاب وكامل جيوش المستعمرين. ولن يعيقوا هذا الشعب من الوصول لمبغاه..
لا حرية بلا وحدة، ولا وحدة بغير حرية.