تضع الثورة نصب عينيها -لتحقيق انتصارها- هدف إعادة استيلاء الشعب على السلطات، سلطاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لأن السياسة هي القوة الحاسمة والمجال المحدد لبقية المجالات والمدخل إليها وإلى معالجتها أو تغييرها.
لكن الثورة السياسية تظل مدخلاً نحو التغيير الاجتماعي –بداية للدخول إلى المجال الاجتماعي– فالأصل في الثورة المجال الاجتماعي فيها، تغيير وضع الشعب وأحواله وعلاقاته وقواعد معاملته.
إن ثورةً سياسية لا توجد مستقلة عن الثورة الاجتماعية الاقتصادية الشاملة، فالثورة التي تتوقف عند استلام السلطة لا تكون ثورة حقيقية، بل مجرد (انقلاب سياسي) في حقيقتها، إذ تبقى حركتها رهن نفس الحقل الاجتماعي الاقتصادي ونفس شروط وقواعد أساليب الاستغلال السابقة، وبالتالي فالتغيير لا يمس السيطرة الطبقية السائدة ولا يعدو عن كونه تغيير في الطواقم والإدارات القديمة ليستبدلها بأخرى أفضل وأكثر حنكة وقدرة على التضليل والتغطية على المنظومة القديمة وسياساتها العامة في الاستقلال والقهر والاجتماعي والوطني والتبعية والارتهان...
لا شك أن الثورة الشعبية العامة تحتاج أن تكون في البدء سياسية من حيث الضرورة الموضوعية لمسيرة الثورة في أن تكون اجتماعية اقتصادية شاملة تصل لكل بنى المجتمع وهو ما يحتم امتلاك الدولة والسلطة والقوة العامة والقرار من أجل تغيير المجتمع القديم الذي يعج بالظلم والقهر وصنوف الاستغلال والمعاناة.
إن السيطرة على السلطة –بشكلها السياسي وأجهزتها العنيفة- تحقق أرجحية الشعب الثائر بامتلاك القوة الكافية لإحداث التغيير الشامل ومواجهة ما يطرأ من مقاومة لـ (الثورة المضادة) ولأي أشكال عنف وتخريب تنتهجها. والتاريخ سبق وأن حكى تجارب الثورات وكيف تمت مواجهتها بكل القمع والعنف المتأتي للظالمين الذين يفزعون من ترك حدائق النعيم والترف المنصوبة على حساب ملايين الجياع البائسين.
عقب الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي، اندفعت الرأسمالية –المنهكة جراء الحرب- في "المجر" لمغازلة اليسار واستدراجه لاستلام السلطة بدلاً عنها وأخرجته حتى من السجون للإيفاء بالأمر. والغرض هو تخفيف العبء السياسي والإدارة عنها، وأهم من ذلك امتصاص غضب وسخط الشارع على سياساتها –الرأسمالية- التي خاضت غمار الحرب. وبعد أقل من عام، كانت السلطة القديمة قد استجمعت قواها مجدداً وخرجت من مأزقها السابق لتطيح بحكومة اليسار الذي فهم أن وصوله لإدارة الحكومة هو الثورة دون الحاجة لباقي الأجهزة!
في كل بلد لم تنتقل فيه الثورة إلى المستوى الاجتماعي وحُصرت في المستوى السياسي الصرف، فقد آلت للسقوط بعد فترة من الوقت. وليس هناك نموذج موحد لسقوط الثورة أو تآكلها وتراجعها، بل أشكال عدة كـ "المحاصصة" والتناصف في السطلة والحكومة، أو بشكل الانقلاب والإزاحة بالقوة والإرهاب لقوى الثورة، أو بالضغط والتأزيم والتعجيز الذي يدفع نحو الانسحاب من مواقع القيادة السياسية والحكومية...، أو بشكل التسوية السياسية التي تزيد كثيراً من تعقدها الانتهازية المتسلقة على ظهر الثورة...
بينما يتحدد شكل النهاية الدراماتيكية للثورة بنوع العلاقات وموازين القوى بين الأطراف المسيطرة على ميدان الصراع والمنافسة. والأسلوب الأكثر إثارة دوماً ما كان (الحرب الأهلية) التي قد تطول لسنوات، وقد تنتهي إما بانتصار كامل لطرف أو بالتسوية بين الطرفين عبر تنازلات متبادلة تنهي الثورة وتسلم السلطة للطبقات الأقدم التي قامت عليها الثورة.
إن من ضعف الثورات السابقة وأسباب فشلها هو عدم تمكنها من تقديم كوادر إدارية وسياسية ثورية واعية تمثلها وتعبر عنها وعن همومها وتطلعاتها، مضطرةً بذلك لاعتمادها على الموظف القديم البيروقراطي غير الثوري غير الطبقي غير الملتزم بالقيم الثورية.
لطالما كان انكسار الانقلابات البيروقراطية على الثورة، حتمية تاريخية، وحقيقة مؤكدة رأيناها وعايشناها بوضوح في واقعنا الوطني والعربي القومي؛ لأن البيروقراطية ذاتها علاقة استغلالية فاسدة جائرة تستهدفها الثورة في جوهرها، فإذا تصالحت الثورة معها لسبب من الأسباب؛ فإنها -أي الثورة- تكون قد انزلقت لحفرة مخيفة لا تخرج منها بدون ضحايا وخسائر حدث أن كانت الثورة نفسها إحداها.
إن البيروقراطية الإدارية (المالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية...) طبقة تمثل رأسمالية طفيلية إقطاعية جبوية -جباية- اختلاسية معادية لكل تغير أو ثورة، ولذلك يكون الهدف الرئيسي للثورة السياسية، أو في مجال مهامها السياسية، هو إزاحة هذه الطبقة من مواقعها السابقة -المسيطرة – وإبعادها عن جهاز الدولة السابق –وتحطيمه – وإنشاء جهاز دولة إداري جديد ثوري شعبي قليل التكاليف يتعامل وينفق ويوظف حسب الاحتياج المباشر. إذ أن القوة الكبرى التي تمتص رحيق دماء الشعب هي هذه الطبقة الطفيلية التي تتسع كالفطر –بدرجة رئيسية.
في بطون وكروش هذه الطبقة تذهب دماء وثروات الأمة طوال عقود. ومن أجل بقائها تتحالف مع الأجنبي الاستعماري وتقاسمه الفوائد وتضع نفسها تحت حمايته وخدمته، فهي استعمارية الولاء والاتجاه، إنها كولونيالية إمبريالية، ولم يعد هناك بيروقراطية وطنية -إطلاقاً- في العصر الراهن.
لقد ظهر الدور الإجرامي للبيروقراطية خلال الثورات اليمنية أكثر ما يكون في بيروقراطية سبتمبر62م.
لقد اعتمدت ثورة أو انقلاب سبتمبر 62م على البيروقراطيين العسكريين من الضباط ذوي المصالح الملتبسة المتشابكة، وليس على الثوريين الشعبيين في الإعداد للانقلاب الثوري، وكان هذا أكبر خطاياها القاتلة، فقد سيطر البيروقراطيون وقتلة الثورة وقواها باسم الثورة، ليقوموا بدورهم بانقلاب رجعي باعوا فيه القضية للعدو التاريخي للوطن والثورة "السعودية" لكي يحكموا البلاد وينهبوها لخمسين عاماً، من الأحمر إلى الإرياني إلى العمري إلى الأصنج فإلى الغشمي إلى صالح إلى علي محسن إلى باسندوة إلى هادي...
كل هؤلاء هم بيروقراطية عسكرية رجعية مافيوية إمبريالية، سيطروا بالقوة على السلطة ودفنوا الثورة وكل مكتسبات البلد السابقة التي تحقق بفعل المقاومة الوطنية اليمنية التحررية من الاستعمار العثماني، ليرفعوا من بقاياها شعارات فارغة لإلهاء العوام –فيخدعوهم بأن الثورة موجودة– بينما الواقع أنهم قيدوا الوطن واقتادوه إلى أحضان كبار عاهري المملكة والبترودولار وأبناء "السفلس". تم تسليم كل شيء إلى الأعداء التاريخيين للثورة والتحرر والوطن. لم يكن أكثر من علم ونشيد ولافتة أهداف لا تُذكر إلا في المناسبات السنوية –خاوية على عروشها- هي كل ما تبقى؛ بل وكانت استخداماً لازماً لـ (الزعرنة) و(البلطجة) على الشعب والمزايدة القميئة على الحركة الوطنية.
ولأن البيروقراطية مخترقة بالضرورة فقد جيشت إلى صف قيادات الثورة أو الانقلاب، أعداء الثورة والباحثين عن كبدها ليأكلوه. وهكذا وجدنا في مسار الانقلاب الثوري البيروقراطي كل المتناقضات، (الثوري) و(الرجعي) على سرير مشترك يأكلون من صحن مشترك ويقتسمون الرغيف و"الأفكار".
توضح الوثائق التاريخية والشهادات و"مخازن الاستخبارات" المفضوحة والمذكرات الشخصية لكثيرين منهم أسماء عديدة ممن يعتبروا من أتباع الإمبريالية السعودية وكانوا محسوبين على الثوار، أيضاً ما كشفته محاكمات عام 66م التي أجراها الرئيس "السلال"، توضح التنسيق المشترك بين أجهزة الاستخبارات وأحابيل المؤامرة التي دارت على مستوى دولي وإقليمي، وأدوار السفارات والارتباطات الشخصية بالدول الإمبريالية، وكيف رتبت لسير الأحداث، وأشخاصها ومحطاتها وقوائم تصفياتها وكيف كتبت هي مآلات الأمور باطناً وظاهراً.
أما الثوار الحقيقيون فقد كانوا قلة مخدوعة، خاصة صغار الضباط، استخدمت لتضحي بحياتها وبذاتها وتتلقى الضربات (الارتدادية)، ليتم لاحقاً الانقضاض عليها وتصفيتها وسحلها في الشوارع.
إن الثورة ليست احتيالات على الشعب وشعارات منمقة –مزيفة– ولا "تأكل أبناءها" كما تقول الأسطورة، ولا تكون نتيجتها تلك الحالة المزرية المأساوية والأليمة والبشعة التي انتهت بها الثورة السبتمبرية خاصة منذ انقلاب 5 نوفمبر 67م إلى العام 2014م. إن ذلك كان الثورة المضادة الرجعية والإمبريالية ومشاريع ومؤامرات التمزيق والعمالة والارتهان والاستباحة للبلد كل البلد وبكل ما فيه.
بحثاً عن النتائج الناجمة عن سقوط الثورة بيد أعدائها، أن يحدث التلاعب بالتاريخ وقلب حقائقه وتسفيهه وتحوريه. لقد تلاعب حلف: البعث الصدامي الأمريكي – الإخوان – الوهابية – السلفية، بالتاريخ الوطني السياسي لليمن والجمهورية، وتشكل وصِيغَ طبقاً لإرادة قاتلي وناهبي هذا الشعب.
حين يكتب التاريخَ ملفقوه ومشوهوه وفاسدوه، ثم يُعَلّم للصغار، فإن جيلاً بأكمله يتم تشويه فكره وعقله ووعيه، ويخرج جيل مزور الوعي والتاريخ، مضطرب الوجدان، متناقض، تائه، لا يدري الحق من الباطل. خاصة أن السبعينيات والثمانينيات وإلى قريب؛ سيطرت وأكملت البيروقراطية هيمنتها على الثقافة والتاريخ والتعليم وكل مجال في المجتمع له علاقة بالمستقبل والوعي. لقد لعبت بعض المراكز البحثية الأكاديمية الصورية –وأكاديميوها البائسون– دور إعادة رسم وتشويه تاريخ الوطن والثورة انطلاقاً من أغراض ذاتية وأحقاد وأوامر أجنبية.
إن من أهم إشكاليات أو معضلات أو كوارث سبتمبر 62م، أن سلطتها كانت تجسد فعلياً: إرادات متصارعة متناقضة داخل الانقلاب -الثورة- .. لقد كانت الجمهورية الوليدة مزدوجة التعريف لذاتها وهويتها، مشطورة التوجه والقضايا والمهام، متناقضة –متناحرة- في تكوينها ومسيرها، ولأن الطرف الغالب والمهيمن فيها كانت الطبقة البيروقراطية المهيمنة على الجهاز الإداري للبلد المعروفة بعمالتها وتبعيتها للإمبريالية والرجعية وعلى رأسها المشيخة التابعة للسعودية، فقد انتهى الأمر بثورة سبتمبر والجمهورية في وضع العاجز أمام ما طرحته من أهداف ومهام اغتيلت واندثرت، وانتهت بواقع اجتماعي يعيش الصراع الداخلي والتنابذ والتفكك، ظلت مافيات السلطات المتعاقبة من ساعتها تقوم بإذكائه -بعد أن أشعلته- وتعمق شروط استمراره وتوسعها، كي تبقى هي الحاكمة والآمرة والمسيطرة حتى على شهيق وزفير الشعب..
أيضاً، مآلات وحدة الـ 22 مايو 90م بين الشطرين وما تمخض عنها من ازدواجية السلطة والإدارة والحكم، ولا يخفى كيف كانت النهاية المأساوية التي نعيش آثارها الجنونية حتى اللحظة وبلا رحمة.
إن تناولاتنا هذه –المتواصلة بالتأكيد- هي لسبر غور ثورتنا اليوم وتجذيرها وتأكيد مهامها، والسعي لتجنيبها خطايا الماضي ومآلاته المأساوية، الماضي الذي إن لم نتعلم من دروسه القاسية فسنكون أشد الخناجر المطعونة في ضلوعنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* علي نعمان المقطري مُفكر ومحلل استراتيجي وسياسي – رئيس تحضيرية الاشتراكي اليمني (ضد العدوان).