بهدوءِ حذرٍ بدأت تطفو على سطح التسويات الروسية الأميركية حول سورية سجالاتٌ سياسيةٌ ينطبق على توصيف ما ظهر منها اصطلاح رأس جبل الجليد، الذي يخفي أكثر مما يظهر في العلن، فتداول الحديث المتصاعد عن التواجد العسكريّ الأجنبيّ غير الشرعيّ في سورية بين روسيا والولايات المتحدة ليس من النمط الذي يحتمل بُعداً تفاوضياً من الطرفين، أو بُعداً تساومياً من الطرف الروسيّ على الأقل، فالسّجال هنا جزءٌ من استراتيجيا مواجهة تأخذ طابع سِجال مستمرَّ بين الطّرفين بمعنى استمراريته دون بلوغ انتصارِ طرفٍ أو هزيمة آخر، ما يضفي خطورةً حال استمراره فترةً طويلة، مع التأكيد سلفاً على عدم جواز مساواة الطرفين في هذا السّجال فروسيا طرفٌ حليفٌ لسورية تتواجد بشكلٍ مشروعٍ وشرعيّ في سورية بعكس الولايات المتحدة التي تعتدي على الدولة السورية وتقيم أكثر من عشر قواعد معتدية...
بدأ هذا السّجال يظهر إلى العلن مع تصريحات مايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات الأميركية حول شرعية الوجود العسكريّ الروسيّ في سورية وأهدافه، الذي استدعى رداً دبلوماسياً روسياً بتأكيد شرعية وجود تلك القوات في سورية و حاملاً طابعاً تفاوضياً مشروطاً يتضمن عدم معارضة روسيا وجود الولايات المتحدة في سورية عسكرياً ولكن بشرط شرعيته التي يأخذها من موافقة الحكومة السورية، ولعلّ وزير الخارجية الروسية أراد فتح أبوابٍ مغلقةٍ بين حكومتي دمشق وواشنطن أملاً في إنهاء الحرب على الدولة السورية، مؤكداً -الوزير لافروف- على شرعيةٍ لا لبس فيها للتواجد الروسيّ في سورية، ليدخل على خط هذا السّجال رئيس قيادة العمليات الخاصة في الجيش الأمريكي الجنرال رموند توماس، بقوله "إنّ وجود القوات الأمريكية في سورية غير شرعيّ، مشيراً إلّا أنّ شرعية الوجود العسكريّ الروسيّ بسورية يخولها أن تطرد القوات الأمريكية “الغير شرعية”، ولكن، مع تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول الوجود الروسيّ والإيرانيّ في سورية، باعتباره نتيجةً لأخطاءٍ ارتكبتها الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة باراك أوباما، بدأ هذا السّجال يأخذ طابعاً ومنحىً أكثر جدّية بين الطرفين، وتبدو نوايا واشنطن عدائيةً وتتجه إلى تقويض الوجود الروسيّ في سورية فالكلام عن أخطاءٍ يعني حكماً الحديث والنية لتصحيحها، وهنا نعود إلى كلام الدبلوماسية الروسية التي تدرك خطورة هذا السّجال بشأن مستقبل الوجود الأجنبيّ العسكريّ في سورية، فكلام لافروف كان أشبه بخارطة طريقٍ روسيةٍ لتلافي الاشتباك الحاميّ في هذا الملف أو على الأقل هو محاولةٌ لتحييده بين الطرفيين مؤقتاً فروسيا حددت شروطاً موضوعيةً وبيئةً سياسيةً للنقاش حول هذا الملف وحددتها بنقطتين، النقطة الاولى هي هزيمة المجموعات الإرهابية في سورية، والنقطة الثانية هي التوصل إلى اتفاق يلائم كافة المجموعات الإثنية والطائفية في البلاد- على حد توصيف الوزير لافروف(21/7/2017)-، لينتقل بعدها الوزير لافروف إلى تحديد الجهة المخولة رسمياً بشرعنة ذاك الوجود أو عدمه، وهي "دمشق" التي يمكنها اتخاذ القرار الشرعيّ حول وجود عسكريين أجانب وقواعد أجنبية، وهذا يعني قطع الطريق على الولايات المتحدة لتثبيت وجودها بداعي التسويات مع روسيا وتكريسا لها، وهي نقطةٌ تسجل للسياسة الروسية في سورية.
اللافت في هذا السّجال توقيته الذي تزامن مع تسوياتٍ روسيةٍ أميركيةٍ حول سورية سواء في هامبورغ (7/7/2017) أو القاهرة (22/7/2017) لإنجاز مناطق تخفيف التصعيد في سورية، ونحن هنا أمام احتمالين لما جرى، الاحتمال الأول أن يكون ما طفى على السطح من سجالاتٍ هي جزءٌ من مناقشاتٍ حادةٍ حول هذا الملف جرت على هامش انجاز التسويتين السابقتين، و الاحتمال الثاني أن تكون الولايات المتحدة أرادت ابتزاز روسيا وزيادة حدّة الاستقطاب الروسي الأميركي والتهديد بفشل التسويات لتكسب وجوداً عسكرياً في سورية بداعي تلك التسويات وكشرطٍ أميركي لتثبيت مناطق تخفيف التصعيد، أو مقايضته بوجودٍ مشابهٍ في أوكرانيا، وفي الأمر ابتزازٌ لن يمر من جهة موسكو بكلّ تأكيد، أمّا إن كان الاحتمال الأول هو المرجح في ظهور هذا السّجال ففي الصورة جزءٌ مفقود وغامض، فصحيح أنّ الوجود الروسيّ شرق المتوسط أربك الاستراتيجية الهجومية والدفاعية الأميركية وأعاد حساباتها في شرق المتوسط، إلّا أنّه بطابعٍ دفاعيّ وعلى أكثر تقدير هو "وقائيّ" وهو غير مهددٍ للولايات المتحدة، وحالياً تقوم الولايات المتحدة باحتوائه بهدودٍ سواءٌ بقوس النار الممتد من تركيا إلى كردستان العراق إلى الأردن إلى فلسطين المحتلة ، أو عن طريق إقامة حزام (شمال جنوب والحزام الجنوبي) تحت مسمى التحالف الإسلاميّ ضد الإرهاب، بالنتيجة يبقى السؤال الإشكالية لماذا ظهر هذا السّجال إذاً؟!
هنا يمكن إحالة ظهور هذا السّجال إلى مناقشاتٍ أميركيةٍ روسيةٍ حادةٍ حول الوجود العسكريّ الإقليميّ في سورية، وبالتحديد الوجود الإيرانيّ والتركيّ، والطرفين حليفين إقليميين للقوتين الأميركية والروسية، ولا نجانب الصواب إذا قلنا أن إمكانية الضغط من كلا القوتين الدوليتين على حلفتيهما الاقليميتين محدودة التأثير في هذه القضية، فلا يمكن إغفال ان القوتين الدوليين بدأتا بسحب ملفات التسوية من الأطراف الإقليمية وهو ما بدا جلياً بإحالة مناطق تخفيف التصعيد من العهدة الإقليمية بسياق أستانة إلى العهدة الثنائية الأميركية الروسية والمكرسة بلقاءات ما بعد هامبورغ، ويبدو أنّ تصريح مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية، حسين جابري أنصاري(15/7/2017) حول وجود القوات الإيرانية في سورية خلال لقائه بالمبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سورية ألكسندر لافرينتييف، أنّ هذا الوجود "المحدود والدقيق" جاء بدعوةٍ من الحكومة السّورية لمكافحة الإرهاب و"إعادة الاستقرار والهدوء إلى سورية وإنهاء الأزمة هناك في أسرعٍ وقت ممكن"، و أنّ الاتفاقات بين إيران وسورية، ليست رهناً بموافقة أيّ طرفٍ من الأطراف الإقليمية أو الدولية، وبالتالي هو ردٌّ إيرانيٌّ صارمٌ على المحاولة الأميركية لطرح هذا الموضوع على طاولة البحث في التسوية الروسية الأميركية الجارية، وردّ الكرة إلى ملعب الولايات المتحدة التي تستثمر في الحرب على سورية، وتستثمر في تقويض دعائم الاستقرار فيها بدعمها الإرهاب بشكلٍ متعدد الصور...، الأمر الذي ستستمر إيران بمواجهته حتى يعود الاستقرار ويتم القضاء على الإرهاب المدعوم أميركياً...، بيد أنّ الصورة التركية في الردّ بدت مغايرة عن ردّة الفعل الإيرانية الصارمة، فتركيا التي تقيم قواعد عسكرية غير شرعية ومعتدية على السيادة السورية في منطقة الباب السورية وتحديداً في جبل الشيخ عقيل عدلت مؤقتاً عن فكرة غزو إدلب وامكانية إقامة قواعد معتدية في جبال باب سقا وجبل الاحلام أو شيخ بركات بريف حلب للإشراف على معبر باب الهوى والتطلع لفتح كريدور بريّ بين دارة عزة و مناطق سيطرة ما يعرف بدرع الفرات مروراً بتل رفعت، والسلوك التركي هنا حمّال أوجهٍ، فالوجه الأول هو تخوفٌ تركيّ من نتائج هذا السّجال الذي سينتهي بخروج كلّ القوات "الغير شرعية" من سورية، أمّا الوجه الآخر فهو خبيثٌ فزجّ تركيا لنفسها بهذا السّجال قد ينتهي بتوافقٍ أميركيّ روسيّ يخرج كلّ الأطراف الإقليمية من السّاحة وبالتالي تكون التسوية على حساب مصالحها، فقررت تأجيل البت في هذه المسالة لما بعد لقاء أستانة المقبل نهاية آب القادم، أملاً في مراعاة مصالحها من الطرف الروسيّ ضمن مناطق تخفيف التصعيد المتبقية...
الثابت أنّ الحديث قد بدأ حول الوجود "الغير الشرعي" للقوات الأجنبية المعتدية على سورية، ولكنّ المتغير هو نتيجته، التي تتبع نتيجة التسويات الحاصلة بين روسيا والولايات المتحدة من جهة، وبين تركيا وروسيا في سياق أستانة من جهة اخرى، ومن المرجح أنّ زيادة حدة السّجال قد يؤثر سلباً على مستقبل أيّ تفاهماتٍ ما لم تقتنع الولايات المتحدة وتركيا بخارطة الطريق الروسية..، وبغض النظر عن الثابت والمتحول في هذا الجدل والسّجال، فالأكيد أنّه يعكس رفضاً سورياً قاطعاً لمحاولة شرعنة إقامة قواعد أجنبيةٍ معتديةٍ على الأرض السورية بداعيّ محاربة الإرهاب، ليتحول معه شعار محاربة الإرهاب إلى غطاءٍ سياسيّ لتفكيك سورية وتحويل مناطق تخفيف التصعيد إلى مناطق نفوذ للقوى المعتدية على الدولة السورية...وهو يعكس عجز الولايات المتحدة على إحداث خرقٍ في خرائط السيطرة الميدانية بدخولها مباشرة إلى جانب أدواتها في الحرب على الدولة السورية، التي بدأت بإعلان بشائر النصر النهائيّ وتتحضر للمرحلة المقبلة بخططٍ اقتصاديةٍ وسياحيةٍ وتنميةٍ فكرية وخطط إعمار الإعمار بعيداً عن الضجيج الكلامي الأميركي لتثبت أنّ النصر حليف خيار المقاوم دائماً وأنّ الاحتلال إلى زوال..