ليس اندلاع الثورة، زوال النظام القديم، بل بداية مرحلة التغيير، انكشاف الحالة التي بلغت بها القوى المُسيطرة إلى العجز عن استمرار سيطرتها بالكيفية السابقة، بانكسار سقف الهيمنة السياسية والإدارية والقمعية التي أمنت لها البقاء ردحاً من الزمن، هي المرحلة التي وصلت فيها أعم وأوسع جماهير الشَعب إلى رفض واقع الحياة القديمة، بكل أوجهها، ودخول الجماهير في مرحلة من النضال الشاق لتثبيت الواقع الجديد الذي قد يتطلب ترسيخه سنوات عديدة، إذ أن انتصار الثورة: تَحَقّقُ إمكانية، وتجسُدّهَا كواقع اجتماعي جديد، عن طريق الممارسة البشرية الفعّالة الواعية المُبدعة.
من يقرأ التاريخ يجد انتصار الثورة نتيجة معادلة رياضية في الذهن تتحقق بقوة القانون المجرد. أو بمجرد سقوط شكلي للحكومة وهيئة الرئاسة وتبدلات البناء الفوقي بمعزل عن القاعدة، ولا بخروج مسيرة شعبية، وحماس بيان سياسي أو انتصار عسكري في معركة مع السلطة القديمة.
لا يوجد ثورة فاشلة، فالفشل مرتبط بمصير النظام والسلطة القديمة مسدودة الأفق، واندلاع الثورة والحرب الأهلية أبرز مظاهر فشله، فالثورة هي الجديد المكتوب له النجاح، لكن هناك ثورة لم تكتمل أو وتيرة حركتها بطيئة، أو تواجه عراقيل صعبة، فيما حركة التاريخ تدعم استكمالها وتحقق جوهرها بأي شكل من الأشكال، إذ أن حركة التاريخ لا رجعة بها إلى الخلف، بل إلى الأمام تمضي بخط حلزوني، وفي الانحناء الحلزوني إلى الأسفل الانتكاسةُ النسبية؛ لكنها بالضرورة تستقيم بالممارسة البشرية الخلاقة الواعية.
يتساءل المفكر الثوري اللبناني "مهدي عامل" مستنكراً ومُعرفاً قائلاً:" الثورة ليست لفظاً أو تجريداً. إنها طمي الأرض، لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض. وكيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متُسّخة به، وتهدمه وتغتسل بوعد أن الإنسان جميل حراً؟".([1])
الثورة سيرورة طويلة معقدة، لها مراحل وأحوال، تشق فيها القوى الثورية نضالها، وسط معارضة وممانعة ومقاومة قوى داخلية وخارجية، إذ أن اندلاع الثورة لا يلازمه تجمد القوى القديمة الرافضة للتغيير، وتسليمها بأن عربة المُستقبل سوف تمر على أجداثها، وتجارب ثورات الشعوب باختلاف قومياتها وثقافاتها، وفي مراحل تطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تثبت، السُنن والقانونيات الاجتماعية الملازمة للثورات.
لا تحدث الثورات في مثالية وعي الانسان وعواطفه التي قد تتوقد حماسةً او تنهزم إزاء الفعل الثوري، بل تحدث في واقع موضوعي له محيط محلي وإقليمي ودولي، تتمفصل فيه المصالح وتنقسم المواقف، فتتوحد فيه كل القوى المعادية للثورة وتنتقل إلى شن ثورة مضادة لتدارك موتها أو موت عضو مهم في جسدها المتحلل حتماً، كما هي المملكة السعودية في مقاومتها الدائمة للثورة اليمنية.
تعمل القوى المعادية للثورة على مضاعفة قواتها ونشاطها، من أجل إعاقة تحقق أهداف الثورة، وبالمقابل ففي بعض الأحيان قد لا تتحد كل القوى المستفيدة من الثورة على المستوى الداخلي والخارجي، نظراً لقصور العامل الذاتي الذي يقود الثورة، أو قصور وعي القوى التي من صالحها التغيير الثوري بتأثير الدعاية المضادة أو الخلافات السياسية الثانوية بين القوى المستفيدة من انتصار الثورة، مما يُثقل الضغط على سير (قطار) الثورة ويجعل محطاته أصعب.
لم تكن الثورة في اليمن خارجة عن سنن التاريخ وموضوعية الوجود البشري، في مواجهتها للتحديات كما في نماذج التحديات التي واجهت الثورة الفرنسية والروسية والانجليزية واللاوسية والفيتنامية والصينية والإيرانية، وغيرها.
تواجه الثورات الشعبية في المرحة التاريخية الراهنة تحديات خاصة حتمية لها علاقة وثيقة بطبيعة الاستعمار الجديد وهيمنة الأحادية القطبية منذ انتهاء الحرب الباردة، يعمل الاستعمار الجديد جاهداً على مقاومة التغيير، وكبح الثورات، ويصبح للقوى الاستعمارية موقفاً من أي ثورة شعبية تحدث في العالم، خوفاً من التبدلات إذ أن هيمنة الدول الامبريالية توسعت في كل قارات العالم في إطار العولمة الغربية السائدة.
يعتبر المفكر المصري "د. سمير أمين" بأن الرأسمالية الحالية "هي قبل كل شيء، رأسمالية احتكارات القلة"([2]) أي أن احتكارات القلة هي التي تتحكم بإنتاج النظام الاقتصادي كُله، فهي الوحيدة التي تستطيع أن تدخل سوق رأس المال، وسوق العمل وتبادل السلع. وهذه الأزمة هي ذاتها أزمة هيمنة العولمة الامبريالية، التي لا تُطيل من سيرورة سيطرتها، إلا "بسلطة الأوليغاركات، السياسية"، في أمريكا ذاتها والدول النامية، وضرب إمكانيات التغيير الديمقراطي، وكذلك في العسكرة التي تفرض هذه الروابط على الساحة الدولية؛ فارتباط الأقلية المُسيطرة محلياً وثيق بنظام الأقلية المسيطرة عالمياً والذي لا يستمر ويتجدد إلا ببقاء هذه الروابط عالمياً ومحلياً، والثورة اليمنية التي استهدفت هذه الأقلية المُسيطرة واجهت هذا التحدي الإمبريالي، في الانتفاضة الأولى 2011، تم إعاقة الثورة بما سمي بالمبادرة الخليجية، وثورة 21 سبتمبر 2014م واجهت ذات التحدي ووجهت من قبل القوى المضادة للثورة عالمياً بالضغوط السياسية والقرارات الدولية والحصار الدبلوماسي، والأعمال الإرهابية، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر.
يوضح المؤلف السوفياتي "زوباريف خاليبوف": " إن أساليب وأشكال وطرائق الاستعمار الجديد متنوعة. فهي تشمل السيطرة الاقتصادية للاحتكارات الامبريالية، وتسعير العداوات بين القبائل، وتأليب فئات سياسة على فئات أخرى، وإقامة أنظمة معادية للشعب، ويُمَارِس على نطاق واسع التدخل العسكري واعمال التخريب، وشراء الذمم والقتل. ويمتاز الاستعمار الجديد بدرجة فائقة من التفنن والحذاقة والمكر والغدر؛ فحيث لا تفيد وسائل الإشراف غير المباشر يطلق العنان للعرف العسكري المباشر. وإذا لم يتسنَ لهذه الدول الامبريالية أو تلك بمفردها خنق حركة التحرر في منطقة من العالم، ذات ضرورة حيوية لها، عندها تقدِم الدول الامبريالية على توحيد أعمالها التنكيلية، إن أحد أشكال العسكرية السياسية لدى الاستعمار الجديد هو الأحلاف العسكرية".([3])
جاءت ثورة 21 سبتمبر 2014 في بلادنا، في ظرف بالغ التعقيد، على مختلف المستويات، فعلى المستوى المحلي، واجهت ضغط موروثات الماضي، في البنية الاقتصادية المُدمرة إثر الانفتاح الاقتصادي وتطبيق وصفات صناديق الإقراض في البنية الإنتاجية المتعددة الأنماط، وواقع الهياكل المؤسسية للدولة المتآكلة بالفساد، ونسيج اجتماعي ممزق، بفعل التنمية غير المتوازنة وممارسات التهميش والتمييز التي مارستها السُلطة العصبوية التاريخية، وأيضاً بفعل تأثيرات حرب 94 على أبناء المحافظات الجنوبية، والانقلاب على الديمقراطية التي مثلت أحد أهم مكاسب وحدة عام 90.
كل تلك الظروف دمرّت نسيج المجتمع، وأعاقت الاندماج الوطني، وأفسدت الحياة السياسية الوطنية، فتفجرت مع الثورة كل (أقياح) الماضي. كتحديات كبيرة أمام الحركة الثورية اليمنية، بحاجة إلى تظافر كل القوى الوطنية من أجل حلها، إذ أن الطابع العام للقضية وطني وعمل بنائي ولا يحتاج فحسب إلى قوة الهدم للحركة التي تتصدر قيادة الثورة، وقد كان الشعور بغبطة تراكم هذه التحديات أمام حركة أنصار الله، وعدم القيام بالدور الوطني بجانبها انتهازية سياسية مدمرة من بعض المكونات.
مثل هذه التحديات المحلية المتعلقة بالنسيج الاجتماعي واجهت الثورة "اللاوسية" كبلد نامي شبيه بواقعنا الاجتماعي من حيث البنية الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة وقت الثورة، إذ استغلت القوى المعادية للثورة المحلية والقوى الأجنبية الفرنسية واليابانية والأمريكية التعدد الاثني والعرقي في "لاوس" وعملت على إذكاء كل العصبيات والأحقاد القديمة، لفض الشعب عن ثورة التحرر، كما حاولت القوى الاستعمارية استمالة التيارات الوسطية والحيادية اللاوسية. ([4])
وتم حل هذه المسألة المتعلقة بالنسيج الاجتماعي، في الثورتين الفيتنامية واللاوسية عبر تشكيل صيغة "جبهة وطنية" تضم مختلف القوى الوطنية، وإذا كانت المسؤولية لتشكيل مثل هذه الجبهة الوطنية على عاتق القوى الحركية التي تقود الثورة فإن ذلك لا يعفي بقية القوى الوطنية من عدم المبادرة إلى مثل هذا الشكل، وفي حالتنا اليمنية، بما تشهده من اختلالات ديمقراطية في واقع الأحزاب السياسية بين النخبة والقاعدة، بلغت الخلافات السياسية والآراء الحزبية مرحلة معقدة أعاقت تشكل مثل هذه الجبهة رغم أنها كانت حاجة مُلحة للشارع الثائر(2014-2011)؛ فالجماهير التي شاركت في ثورة 21 سبتمبر، لم تكن حصراً جماهير أنصار الله، بل شاركت بها قواعد مختلف القوى السياسية، والتيارات اليسارية الاشتراكية والقومية واللبرالية، بالإضافة إلى القوى الشعبية غير المنظمة حزبياً.
كانت أبرز التحديات لثورة 21 سبتمبر هي التعقيدات الإقليمية والدولية المؤثرة سلباً في تأجيج التناقضات الداخلية، أو في الحياد السلبي والميل للسلطة القديمة، وذلك بسبب الموقع الجيوسياسي المميز لليمن، ومن هذه المميزات موقعها في المنطقة الملكية الغنية بالنفط، وطرق التجارة الدولية، مما جعل القوى التوسعية والاستعمارية الأجنبية تقف بمواجهتها، كما وقفت من قبل ضد ثورة 14 أكتوبر المجيدة 1963م، ومثل هذا التحدي المتعلق بالبعد الجيوسياسي للمنطقة واجه الثورة الشعبية الإيرانية التي أسقطت الشاه، وثبتت يد الشعب الإيراني على ثرواته النفطية وأسقطت النظام القديم "حارس" المصالح الإمبريالية في المنطقة. وقد أشار الرئيس اليمني عبد الفتاح إسماعيل أحد قيادات ثورة 14أكتوبر، مدى التحديات التي تمانع قيام أنظمة وطنية مستقلة وثورات في هذه المنطقة.([5])
لم تؤثر ثورة 21 سبتمبر، فقط على القوى التي تتربع المؤسسات الهيكلية لهيئة الرئاسة والحكومة رسمياً (الرئيس المستقيل هادي وحكومة باسندوة)؛ بل مست مصالح القوى التقليدية المسيطرة تاريخياً والمنتصرة في حرب صيف 1994م ، التي كانت تنقسم بشكل سياسي في إطار مصالحهما وصنفت شكلياً (سلطة ومعارضة)، أطاحت ثورة القادمين من خارج الأقلية المسيطرة بالتوازنات القائمة بين القوى التقليدية وهزت المرتكزات الاجتماعية والسياسية والعسكرية لسلطتها، كما خاضت اللجان الثورية معركة شرسة في أجهزة الدولة، في سبيل انتزاع المرتكزات البيروقراطية لسلطة القوى التقليدية والحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار كهدف أساسي لنشاطها، كما واجهت عراقيل ذاتية خاصة بطريقة عملها، بالإضافة إلى أن استمرار العملية السياسية، وترقب الانفراج السياسي للأزمة المرافقة، جعل من سلطة اللجان الثورية لا تقدم على خطوات تغييرية كبيرة، توخياً للوفاق، حتى داهمها العدوان.
لم يكن مستغرباً، أن تأخذ قوى الأقلية المُسيطرة المعادية للتغيير في اليمن، موقفاً مضاداً لثورة 21 سبتمبر، وأن تسخّر إمكانياتها وارتباطاتها المتشعبة محلياً وإقليمياً، وتوظيف المال السياسي وأجهزة الدعاية المضادة الإعلامية والأمنية السياسية، لإعاقة تطور الثورة واستمرارها، وعن طريق الهجوم الإعلامي المحلي والدولي، سواء في خلقه صورة مشوهة عن الثورة وعكسها إعلامياً بشكل مُحرف، أو تشويه حركة أنصار الله التي قادت الفعل الثوري، أو بانتهاز الأخطاء التي تحدث في الممارسة الثورية وتضخيمها وتأويلها بما يعزز قناعات المتخوفين من الصورة البالغة التشويه عن أنصار الله، وعن حركه الثورة الشعبية، بتصويرها عملية انتقامية، وردة من الجمهورية نحو الملكية، ومؤامرة يقف خلفها الرئيس الأسبق، وفي أحايين أخر انضمت جماعات طفيلية وسياسية متعمدة إلى الثورة بهدف ممارسة الأخطاء.
في ذات السياق ففي تجربة الثورة الروسية كانت تشن كبريات الصحف الغربية بما فيها الأمريكية هجوماَ ضد قائد الثورة "فلاديمير لينين" وتصوره بأنه عميل لألمانيا، وضد البلاشفة بشكل عام.
وشيطنة الحركات الثورية وبث الدعايات المضادة، أشبه ما يكون بقانون عام مقترن بكل ثورة "يكفي أن نراجع الخطاب البريطاني الرسمي حول حركة الـ "ماوماو" في كينيا. كانت الحركة (باعتراف الحكومة البريطانيّة في مراسلات داخليّة أُفرجَ عن بعضها) ضد القمع والاستغلال الاقتصادي والاستعمار. لكن الحكومة البريطانيّة حوّلتها إلى حركة شيوعيّة خارجيّة (وإن اعترفت سرّاً بأن لا دليل على ذلك على الإطلاق) كما أن الاستعمار البريطاني العنصري استعان بتراث عريق من العنصريّة ضد السود فصوّرَ ثوّار الـ "ماوماو" على أنهم، مجرمون يتعاطون أكل لحوم البشر والسحر وعبادة الشيطان وحفلات الجنس الجماعي، وعلى أنهم أرهبوا المُستعمرين البيض ومثّلوا بالنساء والأطفال"([6])
كما انتهز الاعلام السياسي المضاد للثورة، كل الحساسيات التاريخية التي تهدد النسيج الاجتماعي وأعاقت الاندماج الاجتماعي اليمني، بتصوير جوهر الثورة الشعبية حدثاً طائفياً أو مناطقياً أو شطرياً يستهدف الجنوب، رغم تجاوز الثورة لهذه الحدود المرسومة وتبنيها للقضية الوطنية وهو ما انعكس في وثيقتها (اتفاق السلم والشراكة)، واستخدمت القوى المعادية للثورة هذه الحساسيات من أجل التحشيد الطائفي المضاد، مستغلة كل ما يثير هذه المسألة، وبتصوير الخصوصيات الثقافية لجماهير أنصار الله وإقامتها في محافظات الوسط مداً طائفياً.
كان تشويه جوهر الثورة الشعبية، استراتيجية للقوى المعادية للتغيير من أجل عزل القوى الشعبية والحركية التي واصلت حراك 2011 عن مواصلة الفعل الثوري مع أنصار الله في حراك 21 سبتمبر. فيشتتون بذلك القوى ذات المصلحة من الثورة التي توحدت في العام 2011.
وواجهت الثورة الشعبية الفوضى التي تسببت بها القوى المعادية للتغيير، واستفادة هذه القوى المضادة ممن صنعتهم وأثرت عليهم تاريخياً من بعض مثقفين وقوى سياسية غدت شكلية، تعمل في اتجاه مضاد لاتجاهات الثورة وإرادة الشعوب، أو مُسلمة بالهيمنة الغربية الخليجية ووصايتهم على مصير البلد.
فتعمدت ابتزاز قوى الثورة بسحب القوات العسكرية من صنعاء مثل "حرس المنشئات"، أو عدم تنفيذ اتفاقية السِلم والشراكة، أو بترك البلاد أمام الفراغ الدستوري، وعدم تصريف الأعمال كحكومة مستقيلة، أو بانسحاب السفارات من صنعاء إلى عدن، أو بالتفجيرات الإرهابية في العاصمة، وتسليم معسكرات للقاعدة في مأرب، والأعمال الإرهابية في المحافظات الجنوبية، وكلها كانت عراقيل متسارعة، بالتوازي مع الحوارات السياسية في موفمبيك، تشتت وتربك عملية الثورة وجهودها الرئيسية، وتجرها إلى أنشطة عسكرية بعيدة عن عملية التغيير الثوري والسياسي الذي أخذ شكلاً توافقياً. وتدفعها إلى القيام بخطوات غير مدروسة مسبقاً، فتسقط في العفوية والحركة الارتدادية الميكانيكية.
كما أن تعمم التصور المدني – الليبرالي، عن عملية التغيير، السلمية، ورفض الشكل العسكري لعسكريته، وليس لمدى موافقته مع المهام المطروحة، عامل آخر لإرباك هذه الشرائح المدنية التي هي مع الثورة من حيث الجوهر، فوجدت في الشكل العسكري لعملية التغيير، ما يعزلها عن مواصلة الانخراط في الحراك الثوري.
وفيما يتعلق بقفز القوى الانتهازية إلى صفوف الثورة من أجل الاثراء الشخصي والابقاء على مصالحها الخاصة، وهوَ ما يؤثر على حركة الثورة، نجد هذه المسألة تتشابه مع نموذجين الأول في لاوس رافق استيلاء القوى الثورية على السلطة عملية تحرير عسكرية وانتفاضات في مرافق الدولة، وتشكيل لجان ثورية، فكانت بعض المرافق الحكومية يقوم موظفيها البيروقراطيين الفاسدين بانتفاضة وإعلان الانضمام للثورة قبل أن تصل الانتفاضة الثورية الحقيقية، وكانوا يدعون بأنهم تقدميون واشتراكيون.([7]) في تجربة الثورة الإيرانية، كان هناك أمرا مشابها، فمع انتصارات الثورة الخمينية بطابعها الإسلامي، اتجه عدد من موظفي أجهزة الدولة القديمة، إلى الترويج للخمينية والالتزام الشكلي بالمظاهر الدينية للتكيف مع توجه السلطة الجديدة والإبقاء على مواقعهم،([8]) وفي هاذين النموذجين نجد أن تلبس أيديولوجية القوى القائدة للثورة هي الطريقة الأسهل لهذ الشريحة البيروقراطية التي كانت جزءاً من الطابع القديم للسلطة وممارساته الفاسدة، فهذه البيروقراطية من كبار الموظفين تصبح شريحة مسيطرة قائمة بذاتها، وتمارس هيمنتها واستغلالها في ظل أي تركيبة حاكمة، وتدافع بشراسة عن بقاء الواقع المتفسخ وضد أي تغيير يفقدها امتيازاتها المالية المهولة، وترتبط عضوياً بالمصالح الأجنبية، فوظفت في اليمن كل امكانياتها وخبرتها العملية في مواجهة الثورة اليمنية منذ 11فبراير حتى 21سبتمبر.
اصطدمت الثورة الشعبية بشكل مباشر بالتدخل الخارجي السعودي، كأعلى شكل للثورة المضادة، في لحظة كادت بها القوى اليمنية أن تخرج باتفاق تاريخي وتوافقت على أهم قضايا السلطة الانتقالية، ولم يتبقَ سوى تسمية شخوص المجلس الرئاسي كما أفاد المبعوث الأممي السابق لدى بلادنا جمال بن عمر في آخر إفادة له أمام مجلس الأمن نهاية أبريل 2015م.
وهو تكالب عدواني، يشبه إلى حدٍ بعيد تكالب الدول الملكية الأوربية ضد الثورة الفرنسية التي توجهت نحو الإطاحة بالنظام الاقطاعي الملكي الاقطاعي، والدخول في النظام البرجوازي الجمهوري، وكذلك تكالب الدول الامبريالية الغربية ضد الثورة الروسية (البلشفية) التي أطاحت بالحكومة القيصرية، وتوجهت نحو إقامة دولة اشتراكية وتأميم الملكيات الرأسمالية في البلد، ففي هاذين النموذجين، باختلاف الأهداف النهائية للثورة، مثلت الثورة في بلد معين تحدٍ للواقع القائم إقليمياً ودولياً وطموحات إنسانية في بناء نظام جديد، وهو ما دفع الحكومات الأجنبية إلى التدخل ودعم الثورة المضادة، تلافياً لتأثير المد الثوري إلى شعوبها، وخوفاً من فقدانها لمصالحها الاستعمارية في هذه الدولة الموجودة والمُخطط لها حسب الاستراتيجية التوسعية والهيمنية لدول العدوان.
للسعودية مع اليمن، تاريخ من التدخلات المضادة، فقد وقفت ضد القفزة الأولى للثورة الشعبية اليمنية في العام 1120، وقامت باحتوائها، ودعمت عملية سياسية شكلية لتقاسم السلطة داخل ذات السلطة، وفي ظل نفوذها ورعايتها، وخلال ثلاثة أعوام وقفت المملكة ضد القفزة الثورية الطموحة في الـ21 من سبتمبر 2014، التي هي امتداد لنضالات الشعب اليمني، من بعد حرب 94، والحروب الست على صعده (2009-2004) وامتداد للحراك الجماهيري الذي لم ينقطع منذ فبراير 2011، واختتمت المملكة وقوفها المضاد للثورة بالعدوان العسكري المباشر في 26مارس 2015م.
سلطة المملكة العربية السعودية - كعدو تاريخي لم يغير من استراتيجيتها العدائية في الحاضر- ضد تحقق إمكانية انعتاق الشعب اليمني وقيام جمهورية وطنية ديمقراطية عادلة مزدهرة جنوب الجزيرة العربية، مهما اختلفت الشخوص التي تتربع السلطة في اليمن أو تقود الثورة.
وقد أظهرت عدوانيتها في أهم تواريخ نضالات الحركة الوطنية اليمنية في 62و 67، إذ وقفت مع القوى القديمة المشيخية والملكية والسلطانية، في شمال الوطن وجنوبه، وضد مختلف أشكال الأنظمة الجمهورية التي حكمت باسم القومية العربية أو الاشتراكية العلمية. كما وقفت ضد المملكة المتوكلية، حين نزعت نحو الاستقلال واستعادة الأراضي اليمنية بعد خروج الاستعمار العثماني.
المملكة السعودية والدول الرجعية العربية الموالية للغرب عموماً في حالة هوس من المد الثوري، وضد أي سعي ثوري نحو الاستقلال الوطني، وضد الدول والمكونات التي لها موقف معادٍ من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والوجود الصهيوني، وإذا رأينا اليوم توحد السعودي والأمريكي والصهيوني ضد بلادنا، فقد توصل بشكل دقيق إلى هذا الاستنتاج الدكتور محمد علي الشهاري قبل ثلاثة عقود الذي كشف طابع ميلها للقوى الاستعمارية منذ زمن مبكر.([9])
[1]- مهدي عامل محاضرة الثقافة والثورة؛ متوفر على الرابط:
-[2] سمير أمين، الخروج من أزمة الرأسمالية أم الرأسمالية في أزمة؟
[3] - زوباريف خاليبوف، الدفاع عن الوطن قضية شعبية عامة، موسكو، دار التقدم 1982.
- [4]"وكانت من أكبر العوائق، التي واجهتها الثورة في لاوس، التعدد القومي والاثني الكبير، وانعدام الوحدة الوطنية، لانعدام السلطة المركزية الوطنية تاريخيا، واستغلال الامبريالية الأمريكية، لهذه المسألة وتأجيج العداوات والأحقاد القديمة" كيسون فوميخان، ثورة لاوس، موسكو، دار التقدم 1982م.
[5] - "تنظر الإمبريالية العالمية بقلق إلى مصالحها، بعد الانتصارات الثورية التي حققتها شعوب بلدان افغانستان واليمن الديمقراطية، وأثيوبيا الاشتراكية، وبعد الانتفاضات الصارمة للشعب الإيراني، التي يقترن بها النضال من أجل المطالب الاجتماعية بالنضال في سبيل قيام نظام ديمقراطي، بديلاً لنظام الشاه المهترئ والفاسد، وتحاول الإمبريالية إخفاء نواياها التآمرية والعدوانية ضد الأنظمة والقوى التحررية في المنطقة، وراء حماية طرق وممرات النفط البحرية، = مثل مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، ومضيق جبل طارق، بالرغم من أن عدداً من البلدان المستقلة، وفي مقدمتها اليمن الديمقراطية، قد أعلنت باستمرار أنها تضمن حرية الملاحة الجوية والبحرية في الممرات البحرية، بما لا يتعارض مع السيادة الوطنية، وقضية السلام العالمي".. مقابلة مع مجلة الكفاح العربي اللبنانية، أعادت نشرها صحيفة 14 أكتوبر 13-11-1987م.
" الامبريالية العالمية بعامة أمريكا تطمح أن تكون منطقة الجزيرة العربية، والخليج العربي، منطقة تابعة لنفوذها السياسي والاقتصادي وتعمل بكل ما تملك من وسائل التآمر والعدوان للقضاء على القوى التقدمية، والديمقراطية، في المنطقة، وفي مقدمتها الثورة في اليمن الديمقراطية، ويرتبط هدفها الاستراتيجي هذا، بأزمة الطاقة التي تعاني منها، هي وبقية الدول الامبريالية، وما تختزنه هذه المنطقة من احتياطي يصل إلى ثلثي الاحتياطي العالمي." كتاب "فجر الثورة" ص 26.
[6]- "حروب الظلال": تاريخ معاصر من الثورات الغربيّة المضادة، أسعد أبو خليل، صحيفة الأخبار اللبنانية العدد ٣١١٩ السبت ٤ آذار ٢٠١٧، وكاتب المقالة اقتبس المعلومة من كتاب "حروب الظل" للكاتب البريطاني كريستوفر ديفسون ص١٣.
[7]- " بعد انسحاب الأمريكان، وانتصارات الثورة، هيئات الدولة القديمة من أعلاها في المحافظات إلى أصغرها في البلدات والقرى بدأت بالانهيار، ونظم أنصار النظام القديم، انتفاضات كاذبة ضد سلطة الحكومة العميلة من أجل تلافي الانتفاضات الثورية للجبهة الوطنية، وادعى أنصار السلطة القديمة، بأنهم تقدميون وطنيون. كي يتسللوا إلى اللجان الشعبية الثورية التي أخذت تحكم المناطق المحررة وتدير مرافق الدولة، إلا أن الجبهة الوطنية استطاعت معالجة هذه التحديات في الوقت المناسب، "ثورة لاوس"، كيسون فوميجان.
[8]- النبي والبروليتاريا، كاريس هارمان، ترجمة مركز الدراسات الاشتراكية.
[9] - "الرجعية العربية بكلها، وعلى رأسها الرجعية العربية الأم في السعودية، تعيش حالة قلق دائم، وخوف يبلغ حد الهلع، من يقظة شعوبها، واحتمال انفجار بركان الثورة عليها، فإنه ليس من المُستبعد على الاطلاق، أن تحاول هذه الأطراف الرجعية العربية، وفق تخطيط امبريالي صهيوني مشترك، توجيه ضربة عسكرية إلى هذا النظام التقدمي العربي أو ذاك، على أمل الخروج من أزماتها الداخلية، وبقصد تصديرها إلى الخارج، من جهة، ومن جهةٍ أخرى، بهدف تنفيذ ما عجزت قوى التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، عن تنفيذه بعدوان 5 يونيو 1967 وهي في أوج قوتها، ألا وهوَ ضرب حركة الثورة والقومية العربية، بكل فصائلها التحررية والتقدمية وبكل أنظمتها. وقد توجه الضربة أولاً إلى النظام الوطني الجزائري، وقد توجه الضربة أيضاً إلى نظام ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا، وقد توجه أولا وقبل كل شيء إلى النظام الوطني الديمقراطي في الشطر الجنوبي من اليمن، لما يمثله من خطوة ثورية على مستوى الجزيرة العربية. ووفق هذا المخطط العدواني يُراد استنزاف الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، والنظام الوطني في سوريا، في معارك لا تنتهي، داخل لبنان التي تحظى الرجعية الانعزالية فيه بكامل الدعم الصهيوني الإمبريالي"، محمد علي الشهاري، حول الوحدة اليمنية، والانتهازية اليسارية، والحزب الاشتراكي اليمني. محمد علي الشهاري. بيروت دار الفارابي 1981 ص 21 ، 22.